بالتزامن مع التطورات في الشرق الأوسط، وقبل أن يؤدي الرئيس الأمريكي المنتخب اليمين الدستورية، بدأت الدعاية التضليلية، للإعلام الخاضع، والطيع،
بالترويج أن "فجر يوم جديد يشرق"، وأن "الوضع يعود إلى طبيعته"، و"السلام سيأتي مع ترامب" وأشياء أخرى مماثلة تقلب الواقع نفسه.
وفي ظل هذا المناخ الذي يزرعه الكيان المجرم، المصحوب بسموم القوى الظلامية، وأبواق الرجعية وعلى رأسها بوق قطر، تحت غطاء "الانتصارات" الوهمية، لإخفاء جريمة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وتقطيع مساحة غزة وتكثيف الحصار عليها مع استمرار الكيان المجرم في إسقاط القنابل الأمريكية والأوروبية في مناطق مختلفة مما تبقى من القطاع حيث أصيب العديد من الأطفال والنساء مع هدم العديد من المباني السكنية.
إن وقف إطلاق النار في غزة، وتنصيب ترامب، ومباشرة التهديدات على مستوى الإعلام الإمبريالي، وتصعيد الهجمات الإمبريالية على الجبهات المستعمرة: هي حلقات يضخم منها أنصار وخدام الحرب الوحشية لنقل المذابح والتطهير والتجزيء الذي تقوم بهما الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي والكيان الصهيوني إلى المرحلة التالية.
إن ما يروج له من أحاديث منمقة حول "اتفاق الهدنة" في غزة، والذي يصل لحد تقديمه هدية للشعوب مغلفة بأوهام "النصر"، (على شاكلة احتفالات النصر في سوريا)، هي من ناحية، محكومة بهدف تجميل المذبحة الجارية تحت قيادة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي والكيان الصهيوني؛ ومن ناحية أخرى، جعل سياسة التقتيل التي تلتقي فيها الأنظمة الإمبريالية والأنظمة العميلة والأحزاب الرجعية الظلامية الأخرى، والتي تقف على الطرف النقيض في لعبة المذابح الأمبريالية والصهيونية تبدو "مبررة". ولهذا السبب يقدمون عرضًا للرضا عن الذات للتمسك بشكل أقوى، على الواجهة الأخرى للكيان الصهيوني والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالسلاح الذي يتم وضعه على رقاب شعوب المنطقة.
لكن هل لدى الشعوب حقًا أي سبب للرضا بتقديمها للمذابح في إطار متطلبات صراع الإمبريالية العالمية؟ هل يمكننا تجاهل حقيقة أن جميع أسباب التصعيد واستمرار القتل مطروحة على الطاولة في نفس الوقت، وحسابات الأنظمة الإقليمية ومصالحها؟
بمعنى هل يمكننا تجاهل العوامل العامة المحركة لهذه العمليات والتي تزداد شراسة على نحو متزايد، ألا وهي حقيقة أن الولايات المتحدة تخوض معركة شرسة حتى لا يتم تحدي تفوقها في النظام الرأسمالي الدولي، وإلى جانبها تقف دول الناتو والاتحاد الأوروبي، على الرغم من كل التناقضات والخلافات داخلها؟ كيف يمكن "ترويض" الوحش الإمبريالي في فترة من علاقات القوة الدولية المتغيرة، في فترة حيث تقاتل الولايات المتحدة وحلفاؤها من جهة، وروسيا والصين وحلفاؤهما من جهة أخرى، الذين يشكلون كتلة خاصة بهم، من أجل السيطرة على الأسواق، ومصادر الطاقة والاتربة الناذرة وطرق النقل والدعم الجيوسياسي؟
هذه التساؤلات هي المحاور الحقيقية المتحكمة في الإطار العام للصورة البارزة على الأرض، والتي تشمل وتحيط كل تطورات المذابح الجارية، بحيث يظل الفتيل مشتعلاً، لأن الكيان الصهيوني وحلفائه، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والناتو، لا يتخلون عن استراتيجيتهم لدفن رؤية الشعب الفلسطيني للحصول على وطنه، وفي إعادة تفتيت الأوطان، في حين يصبح احتلال هذه الأراضي أكثر وحشية للتحكم في الأسواق ومصادر الطاقة.. لذلك فإن صورة الوضع العام لا تترك أي مجال للتهاون لدى الشعب الفلسطيني، أمام كيان القتل بعد توسيعه لمناطق احتلاله في سوريا بعد المجيء بالمرتزقة "الجهاديين" إلى دمشق وقصف اليمن ولبنان، وتهديد إيران.
فلا مجال لأي أوهام حول "التطورات الإيجابية" من خلال إعادة توزيع الطرق وخطوط الأنابيب ومناطق النفوذ، وتفتيت البلدان، وتنشيط النزاعات الإثنية، العرقية والدينية، بدماء الشعب؛ ولا استقرار محفوظ للشعوب من القواعد العسكرية الجديدة المكثفة، والمجهزة بكل آليات الدمار، المزروعة في البحر الأبيض المتوسط، وفي اتجاه البحر الأحمر جنوبا والبحر الأسود شمالا..
وعلى النقيض من المنطق الخطير المتمثل في الرضا والتهليل بالطعم المسموم المسمى من وجهة قطر وبوقها ومقربيها ب"الانتصار"، والذي يتم ترويجه على وجه التحديد لتبرئة النظام الرأسمالي في أكثر مراحله تعفنًا، ولزرع الآمال الزائفة لدى الناس بأن هناك مخرجًا من خلال التسوية مع الهمجية، هناك حقيقة مفادها أن "العالم يحترق"، كما هناك أيضًا حقيقة وجود جبهات جديدة تجد مكانًا لها في فسيفساء المذبحة. ففي الوقت الذي تحافظ فيه الحكومة الأمريكية الجديدة، على سبيل المثال، على الخطاب حول "مفاوضات السلام الوشيكة في أوكرانيا"، تتصاعد مطالباتها في "نقاط ساخنة" أخرى على الكوكب، مثل القطب الشمالي (جرينلاند، كندا)، وفي المحيطين الهندي والهادئ، وفي ممرات بنما، إلخ.
إن المنافسة تشتد، يوما عن يوم وتغذي وحش الرأسمالية، أما التعايش مع التسويات المؤقتة، ليس سوى الإعداد للمرحلة التالية من المواجهة الأكثر وحشية. وهي طريقة، أي التسويات المؤقتة، لتغذية وحش الرأسمالية، الذي يتسبب باستمرار في الدمار والمآسي والألم والاستغلال المتزايد لشعوب العالم أجمع.
ويتضح هذا أيضًا من الجانب الآخر للحرب الإمبريالية، والمنافسات بين الاحتكارات، وخاصة في القطاعات الإستراتيجية، مثل اقتصاد الحرب، والطاقة، و"التحول الأخضر". ومن خلال مخططات تخدم مجموعات الأعمال (مشاريع إعادة الاعمار) بهدف توسيع هامش الربح أكثر وأكثر، وخنق الفعل النضالي العمالي، وتصعيد الهجوم على حقوق الطبقة العاملة، مما يشير إلى شدة الاستغلال، والإضعاف المستمر لأي تدابير لحماية الناس لأنها تعتبر في منطق رأس المال "تكلفة دون فائدة".
إن المطلوب أكثر من أي وقت مضى ، هو اليقظة والنضال، لمواجهة مخططات القتلة..مع الإيمان بأنه بقدر ما يكون الطريق مفتوحا أمام الرأسمال وسلطته، وأجهزته وآلته الحربية، بقدر ما يكون مفتوحا أيضا أمام أولئك الذين هم في الأسفل، أي الطبقة العاملة والفئات الشعبية، وقواها الحقيقية.
فلا "تطورات إيجابية" ولا "استقرار" بالنسبة لأي شعب دون كشف ما تسوقه القوى العميلة الموالية للأعداء من أوهام، مع التصعيد من شدة التضامن مع الشعوب الأخرى، والعمل على مناهضة الحرب الإمبريالية أينما كانت. وهذا يتطلب بناء الأدوات السياسية الثورية وسط اشتداد معمعان الصراع واليقظة الدائمة مع مناهضة مخططات الإمبريالية والأنظمة التابعة لها في كل بلد، والنضال من أجل الإطاحة بها. لأن على هذا الطريق فقط يمكن ضمان السير نحو النصر الحقيقي.