هل ما وصلت اليه منظومة الصحة بالمغرب نتيجة للاهمال أو سوء التدبير؟
لماذا يضخم الإعلام من شعارات الاهمال هذه ولما التركيز في تحميل المسؤولية لمن يعينون على رأس مؤسسات الصحة؟
أليس في الأمر خلفيات مدروسة ومضبوطة؟
لم يعد التدهور المخطط له والمستهدف لمنظومة الصحة العمومية في المغرب مجرد نتيجة للإهمال أو سوء التدبير، بل هو محصلة استراتيجية لمخططات متكاملة الاركان، انطلقت منذ مرحلة الثمانينات والتوجه نحو الخوصصة، وارتفعت وتيرة سرعتها مع انهيارات المعسكر الشرقي. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تسليع كل شيء، والسطو على كل مكتسبات الشعوب، وتفكيك كل القطاعات العمومية بما فيها قطاع الصحة العمومية الذي كان يعد حق أساسي من حقوق الإنسان وكرافعة للتضامن الاجتماعي، وإعادة تشكيله ليصبح مجالاً استثمارياً مربحاً، تُحوّل فيه آلام المواطنين إلى تدفقات مالية لأصحاب الرأسمال. وهنا يندرج الاهمال والتدبير باعتبارهما من الآليات الممنهجة لخدمة المخططات الجهنمية، وفي نفس الوقت اعتمادهما في لحظات الاحتجاج والتذمر الشعبي كشماعة يعلق عليها واقع التخريب لاخفاء المخططات الجهنمية عن الانظار بتقديم بعض الرؤوس أكباش فداء لامتصاص الغضب.
هذا التحول لم يأت بشكل عفوي، بل كان نتاج تحالف ثلاثي الأبعاد: مؤسسات مالية دولية تفرض وصايتها، ونظام تبعي خادم للامبريالية، ومطيع لقراراتها، وينفذها بحذافيرها خدمة للسوق ولاصحاب رأس المال على حساب الشعب، وبرجوازية محلية وفئات متوسطة متذبذبة تتصيد الفرص للتسلق الطبقي وجيش من البيروقراطيين المعينين على مؤسسات الدولة ينتظرون لحظة الحصاد.
فخلف شعارات مثل "ترشيد النفقات" و"إصلاح القطاع العام" و"جذب الاستثمار"، تقف مؤسسات التمويل الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) كالمهندس الخفي لهذه التحولات. وهي تفرض شروطاً قاسية (قاسية على الشعوب طبعا) تهدف إلى الاجهاز على حقوقها التي تحققت في مرحلة المد التحرري، وصعود معسكر قدم نموذجا لمجتمع يضع في صلب اهتماماته الإنسان كهدف للتطور وتحقيق رفاهيته، وهي المنافسة نفسها التي املت على الأنظمة الرأسمالية الانحناء وتوجيه الدولة البرجوازية للقيام بادوار اجتماعية، او ما يعرف في الادبيات السياسية بالدولة الاجتماعية.
فتصفية القطاع الصحي العمومي، أو "تخفيض عبئه المالي" بالتعابير التقنية، ليست سوى شرط من شروط ضمان تسديد الديون. بمعنى آخر، يتم تفكيك الخدمات الصحية لضمان تدفق الأموال لخزائن الدائنين، مع تهيئة سوق واعدة للرأسمال العالمي الذي يبحث باستمرار عن مجالات جديدة لاستثمار فوائضه، حتى لو كان مجال استثماره هو مرض الإنسان نفسه.
ولتمرير هذه الجريمة في حق الشعب المغربي، اعتمد النظام على المؤسسة التشريعية لصبغ جريمه بصباغة ديمقراطية وفي نفس الوقت لجعلها محط إجماع وسط النسيج السياسي المنبطح وكل اذرعه النقابية والجمعوية، وصحافته الورقية والالكترونية..
لذا لم يكن للبرلمان كمؤسسة تشريعية في هذه المعادلة دوراً تشريعياً بالمعنى التمثيلي، بل كان دوراً "تلقائياً" يتمثل في سن القوانين التي تواكب متطلبات هذه الاستراتيجية. كما لم ينشأ نقاش مجتمعي جاد حول الخيارات المتاحة، بل تم تقديم سياسات الخوصصة على أنها "إصلاحات" حتمية و"متقدمة". التجلي الأبرز لهذا الدور كان في إقرار وتنزيل برنامج الحماية الاجتماعية، وتحديداً التغطية الصحية الإجبارية (AMO). فبدلاً من أن يكون هذا البرنامج وسيلة لتعزيز الخدمات الاجتماعية، وتوسيع قاعدة الاستفادة من القطاع الصحي والعلاجات من الأمراض المكلفة والمرهقة، تم تصميمه هندسياً ليكون محركاً لتمويل القطاع الخاص. لقد حوّل النظام، من خلال هذه التشريعات، التضامن الاجتماعي من قيمة نبيلة إلى آلية للسوق، حيث يجبر المواطنون على الاشتراك لإنشاء صندوق مالي ضخم يضمن للعيادات الخاصة، والمصحات، ولشركات الادوية، تدفقاً مستمراً للأرباح، ويوفر مجالا للبيروقراطيين لنهب الصناديق، مُعفياً الدولة من التزامها المالي المباشر في بناء وتجهيز المستشفيات العمومية، وفي توفير الادوية، والتكفل بالعلاجات.
ولتطبيق هذه الجريمة تم اعتماد آلية خاصة تخفي عملية الخوصصة عبر اسلوب ماكر سمي ب"الشراكة".
لتتجاوز آليات التطبيق نطاق بيع المستشفيات إلى آليات أكثر تمويهاً وخداعاً للرأي العام سميت ب"التدبير المفوض" (الخوصصة من الباطن): تحت شعارات جذابة مثل "الشراكة بين القطاعين العام والخاص" و"التمويلات المبتكرة"، يتم تفويت تدبير مستشفيات عمومية لشركات خاصة. لكن منطق الربح الذي يحكم هذه الشركات يتعارض جوهرياً مع منطق الصحة العمومية. النتيجة الحتمية هي الضغط على تكاليف التشغيل (تقليص الكوادر، ندرة المعدات، تحميل المريض تكلفة الأدوات الأساسية)، مما يؤدي إلى مزيد من تدهور الخدمة ويخلق مبرراً لخوصصتها كلياً لاحقاً.
كما أن تحرير ملكية المؤسسات الصحية، بالسماح لغير الأطباء (أي أصحاب الرأسمال) بامتلاك المستشفيات وتوظيف الأطباء، نقلة "نوعية" نحو "رسملة" قطاع الصحة. فهذا التشريع، المخطط له محكوم ببعد طبقي يهدف لتحويل مهنة الطب من رسالة إنسانية يوجهها ضمير الطبيب الشريف إلى علاقة تجارية بحتة يحددها عقد أجرة، اي الى جعلها سوق جديد لمراكمة الربح. والطبيب هنا، رغم توسع فرص الدخل لديه، ومع تطور الوضع وتدفق خريجين جدد، سيصبح مجرد موظف، مفصول عن ضمير المهنة، يتبع تعليمات المسؤولين التي تهدف إلى تعظيم الربح، وحتما سيكون على حساب جودة الرعاية مع اشتداد المنافسة.
وتتجلى نتيجة هذه المخططات الجهنمية في ظهور "أخطبوطات" صحية، كمجموعة "أكديطال" (لصاحبها رشيد طالب) التي أصبحت نموذجاً للرأسمال الصحي المسيطر، الذي يتوسع أفقياً وعمودياً مستفيداً من التشريعات المواتية. هذا يؤدي إلى ولادة نظام صحي طبقي: نظام خاص، عالي التكلفة لكنه "فعال" في جني الأرباح، موجه للأغنياء والقادرين على الدفع عبر اشتراكاتهم. ونظام عمومي، مُهمل ومزدحم، ومنتجا لاوكار الفساد والفضائح، كمؤسسات تلتصق بها قولة المنجميين "الداخل مفقود والخارج مولود"، ويصبح ملاذا أخيرا للفقراء، محولا الحق في الصحة إلى امتياز طبقي. بذلك، لا تباع المستشفيات فقط، بل يُباع مفهوم التضامن الوطني نفسه في سوق المصالح الضيقة.
إن ما يقدم تحت عنوان "إصلاح القطاع الصحي" هو في جوهره عملية إعادة هندسة طبقية للمجتمع عبر بوابة الصحة. إنه إسقاط أدوار كانت الدولة الطبقية ملزمة بها في شروط المد التحرري لضمان بعض المكتسبات، لتحول تلك الادوار إلى منظمة لسوق الأمراض والفقر والبؤس. وهذا هو الوجه الحقيقي للإصلاح الذي يتغنى به النظام وكل الأطراف السياسية النقابية والجمعوية التي تدور في فلكه. المواجهة الحقيقية لهذا المشروع تتطلب، إذن، ليس فقط المطالبة بتحسين الخدمات، بل فضح الآليات الاقتصادية والسياسية التي تقف وراءه، وابعادها الطبقية، واستعادة النقاش حول الصحة كحق سيادي وليس كسلعة واستثمار في الكرامة الإنسانية، وليس مجرد مجال لتحقيق الأرباح، وتوجيه المعارك والاحتجاجات وتنظيمها على ارضية الوقوف في وجه المخططات الجهنمية. واسقاط ما يمكن اسقاطه والتأسيس للمواجهة الشاملة.