"عندما يقرر فرد واحد أن يضر بآخر، نسمي ذلك محاولة قتل؛ ولكن عندما يقرر المجتمع أن يعرض فئة كاملة من مواطنيه لظروف يعرف مسبقًا أنها ستؤدي إلى
مرضهم وموتهم المبكر، كما حدث في إنجلترا، فإن هذا لا يعتبر جريمة. ومع ذلك، فهو يشكل قتلا اجتماعيا في أبشع صوره." (فريدريك إنجلز، حالة الطبقة العاملة في إنجلترا)
لم يكن وصف فريدريك إنجلز في هذا الكتاب "حالة الطبقة العاملة في إنجلترا" (1845) مجرد سرد مأساوي للظروف المعيشية للبروليتاريا، بل كان تحليلا علميا واجتماعيا وسياسيا رائدا قلب المفاهيم السائدة عن أسباب الأمراض رأسا على عقب. لقد انتقل من النموذج الفردي والطبي المحض لفهم المرض إلى نموذج اجتماعي-اقتصادي، ملقيا باللائمة على النظام الرأسمالي نفسه في ما أسماه "القتل الاجتماعي".
في وقت كان يرجع فيه أسباب الأمراض وكثرة الوفيات في أوساط الفقراء بإنجلترا إلى "سلوكهم غير الأخلاقي" أو "إدمانهم على الكحول" أو "قلة النظافة الشخصية"، جاء إنجلز ليقلب المعادلة من "إلقاء اللوم على الضحية" إلى "إلقاء اللوم على النظام". قدم إنجلز تحولا جذريا في التفكير، ودحض ما روج له الفكر البرجوازي من تفسيرات وتبريرات، مُظهرا أن الظروف المزرية هي نتيجة حتمية للنظام الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي.
هذه النظرة المادية وضعت حجر الأساس لما يعرف اليوم بـ "المحددات الاجتماعية للصحة"، والتي تؤكد أن مكان ولادة الشخص، ونموه، وعمله، ومعيشته، وشيخوخته هي العوامل الأساسية التي تحدد حالته الصحية أكثر من العوامل الطبية الحيوية أو الخيارات الفردية.
دعم إنجلز أطروحته بتحليل دقيق للظروف المادية. بحيث وصف الأحياء العمالية (مثل مانشستر) بأقبيتها الرطبة والمكتظة، والتي تفتقر إلى التهوية وأشعة الشمس، مما خلق أرضا خصبة لأمراض الرئة مثل السل.
كما توقف على أجور العمال ليوضح كيف لا تسمح لهم بشراء طعام مغذي وصحي، فكان طعامهم رديء الجودة (خبز مغشوش، لحم فاسد، مياه ملوثة)، مما أدى إلى سوء التغذية وجعل أجسادهم أكثر عرضة للأمراض. هذا مع مياه ملوثة بمخلفات المصانع ومجاري الصرف الصحي المكشوفة، مما تسبب في تفشي أمراض مثل الكوليرا والتيفوئيد بشكل دوري. ووصف بأدق التفاصيل كيف أن ظروف العمل في المصانع لساعات طويلة (16 ساعة أحيانا) في أماكن خطرة، بدون تهوية ومع استنشاق الغبار والأبخرة، كان يؤدي إلى تشوهات جسدية وأمراض مزمنة ووفيات مبكرة.
ويعتبر عمل إنجلز سابقا لعصره. ففكرة أن تحسين الصحة يتطلب تدخلا على مستوى البنية التحتية (مياه نظيفة، صرف صحي، سكن لائق، وتغدية صحية ومكتملة) وليس فقط تدخلات طبية فردية، أصبحت حجر الزاوية في علم الصحة العامة في القرن العشرين. لهذا يمكن اعتبار عمل انجلز أبرز مشروع نظري مؤسس للنموذج "الاجتماعي-الاقتصادي" للصحة.
يشير العديد من المؤرخين، مثل إيريك هوبسباوم في كتابه "عصر الثورة: أوروبا 1789–1848"، إلى عمل إنجلز كواحد من أهم الوثائق عن الثورة الصناعية. وفي علم الأوبئة، يُستشهد بعمل إنجلز كمثال تاريخي مبكر على ربط انتشار الأمراض بالطبقة الاجتماعية، كما أشار إلى ذلك علماء الأوبئة ميرفين سوسر وإزيو سوسر في عملهما حول تطور علم الأوبئة الاجتماعي.؛ وهما زوجان من علماء الأوبئة والأطباء ذوي تأثير كبير، وأعمالهما المشتركة تعتبر أساسية في تطور علم الأوبئة الاجتماعي والطب الوقائي..
لم يكن إنجلز مجرد مراقب، بل كان عالمًا اجتماعيًا مبكرًا استخدم طريقة التحليل الملموس لواقع الطبقة العاملة الانجليزية في عصره. لقد أظهر بشكل لا لبس فيه أن الصحة هي قضية سياسية قبل أن تكون طبية. ربط بشكل مباشر بين جشع البرجوازية، واستغلال العمال، والبيئة المادية القاتلة التي خلقها هذا الاستغلال. وبذلك، لم يقدم فقط وصفا للواقع، بل قدم إطارا تحليليا لا يزال ذا صلة لفهم التفاوتات الصحية بين الطبقات الاجتماعية في عالمنا اليوم ويحمل في طياته رؤية فلسفية ثورية للرعاية الصحية شكلت مدخلا ل"نيكولاي سيماشكو"* لتأسيس النظام الصحي في الاتحاد السوفييتي.
بالنسبة ل"نيكولاي سيماشكو" لم يكن النظام الصحي مجرد إجراء إداري جديد في بلد الثورة البلشفية، بل كان تجسيدا ماديا لفلسفة سياسية واجتماعية شمولية تهدف إلى إعادة تشكيل دور الدولة في حياة المواطن. ويمكن فهم هذا النظام من خلال عدة مبادئ أساسية متشابكة:
1. الصحة كحق أساسي ومسؤولية جماعية: في قلب هذا النظام تكمن فكرة ثورية مفادها أن الرعاية الصحية ليست سلعة يُتاجر بها، بل هي حق مكفول لكل مواطن، وتقع مسؤولية توفيرها على عاتق الدولة. هذه الفكرة تنبع من المبادئ الاشتراكية التي تسعى إلى تجسيد العدالة الاجتماعية من خلال إزالة الفوارق الطبقية في الحصول على العلاج.
2. التخطيط المركزي والعقلانية العلمية: اعتمد النظام على التخطيط المركزي، حيث تم تصميم الهيكل الصحي الوطني من الأعلى إلى الأسفل لضمان التغطية الشاملة والموحدة. كان هذا التخطيط موجهاً من قبل العلماء والمتخصصين، مما يعكس إيماناً بالعقلانية العلمية كأداة لإدارة المجتمع.
3. النهج الشمولي في الطب: قدّم مفهوم العلاج الشمولي للمريض، الذي يأخذ في الاعتبار الحالة الجسدية والعقلية الكاملة، والسياق الاجتماعي والبيئي، والربط بين الأعضاء والأجهزة.
4. الهيكل الهرمي المتكامل: تم ترجمة هذا المبدأ إلى هيكل تنظيمي واضح ومتدرج، حيث كانت العيادات المحلية (Polyclinic) حجر الزاوية في النظام، تليها العيادات المركزية والمستشفيات ذات التخصصات الدقيقة.
5. التركيز على الطب الوقائي: امتد دور النظام ليشمل حماية صحة المجتمع ككل، مع تحول من "العلاج" إلى "الوقاية" كمحور أساسي في فلسفة الصحة العامة.
كان نظام "سيماشكو" أكثر من مجرد نظام صحي؛ كان مشروعا حضاريا يهدف إلى خلق "إنسان جديد" في "مجتمع جديد". لقد حاول دمج المبادئ الاشتراكية (المساواة، التخطيط المركزي، الملكية الجماعية) مع مبادئ طبية متقدمة (الشمولية، العلمية، الوقائية) لإنشاء نموذج يكون فيه الفرد السليم جزءا لا يتجزأ من جسد المجتمع السليم. ورغم ما لحق به لاحقا مع تحريفية خروتشوف وعودة البرجوازية للحكم وتكريسها للبيروقراطية، إلا أن تأثيره على تشكيل أنظمة الصحة العامة في القرن العشرين يظل عميقا، كأول تجربة تاريخية جريئة عملت على بناء نظام صحي وطني قائم على فلسفة شمولية.
ومهما مآلات التجربة، لم يكن ظهور نموذج سيماشكو الصحي في ظل الثورة البلشفية حدثًا منعزلاً أو محصلةَ صدفة، بل كان تعبيرًا ملموسًا عن تحول جذري في موازين القوى الاجتماعية. لقد أظهرت هذه التجربة التاريخية أن النظام الصحي الشامل والشمولي ليس مسألة تقنية فحسب، بل هو بالأساس مسألة سياسية ترتبط ارتباطًا عضويًا بمن يملك الثروة والسلطة وكيفية توزيعها.
تقوم هذه النظرة على فرضية أساسية مفادها أن القدرة على إدارة الثروة الوطنية يجب أن تكون بيد من ينتجونها، أي العمال والشرائح الشعبية. فبدلاً من أن تذهب فائض القيمة الناتج عن عملهم إلى أرباح طائلة للاحتكارات والرأسمالية، يتم توجيهه عبر التخطيط المركزي الديمقراطي (نظريا) لتلبية الاحتياجات الاجتماعية الأساسية، مثل الصحة والتعليم والطاقة. هنا، يصبح معيار نجاح الخطة ليس "الربحية" المالية لمجموعة صغيرة، بل "الربحية الاجتماعية" المتمثلة في تحسين نوعية حياة المجتمع بأسره. التكنولوجيا والتطورات العلمية في هذا الإطار لا تكون سلعة مسعرة يحتكرهها الأغنياء، بل أدوات في خدمة التقدم البشري، متاحة للجميع.
ويعتبر النظام الصحي في كوبا التطبيق العملي الأنجح والأكثر استمرارية لنموذج سيماشكو خارج الاتحاد السوفييتي السابق. بالرغم ان كوبا لم تنسخ النظام السوفييتي بحرفيته، لكنها طورت فلسفة سيماشكو وجعلتها قابلة للاستمرار حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وقد اثبت النموذج الكوبي، بالرغم من الحصار الاجرامي الذي لم يتعرض له اي شعب في عصرنا:
اولا: أن الرعاية الصحية الشاملة المجانية ممكنة حتى في البلدان المصنف كبلدان نامية، بل ان كوبا الحصارة تعد البلد الرائد عالميا على مستوى الصحة والتعليم ورعاية الطفولة.
ثانيا: أن السيادة الصحية مرتبطة بالسيادة الوطنية.
وكما عبر فيدل كاسترو قي قولة مشهورة له: "الثورة ليست فقط تغيير النظام السياسي، بل هي بناء نظام صحي يحمي كل طفل، كل عائلة، كل إنسان"، وهي تجسيد عملي لرؤية سيماشكو.
فانطلاقًا من هذه الرؤية، فإن الدفاع عن الحق في الصحة اليوم، في مواجهة سياسات التقشف وخوصصة الخدمات العامة، لا يمكن أن يكون مجرد مطلب إصلاحي جزئي. بل هو صراع وجودي، أن نكون أو لا نكون، ويتطلب:
1. تشخيص العدو بشكل صحيح، لان الأزمة ليست في نقص الموارد، بل في نظام اجتماعي-اقتصادي-سياسي (الرأسمالية الاحتكارية والتبعية للقوى الاستعمارية) يقدس ربح القلة على حساب احتياجات الأغلبية. لذلك، فإن العدو هو:
اولا: النظام التبعي، اللاوطني اللاديمقراطي اللاشعبي المكلف برعاية مصالح القوى الاستعمارية وتنفيذ سياسات صناديق التمويل الامبريالية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) المملاة، والتي تفرض التقشف وتعمل على تفكيك كل المكتسبات الاجتماعية وتسليع كل شيء من خلال:
- سياسة الخوصصة التي تحول الصحة والماء والتعليم من حقوق إلى سلع.
- اخضاع مصالح وخيرات البلد للاستنزاف لخدمة تدمير البشر والحياة على كوكبنا، ناهيك عن استباحة خيرات وثروات البلد أمام النهب الفاحش بالبحر والبر والجو وحماية نهب القوى الاستعمارية، ومنها الصهيونية؛ ولمتطلبات الحرب الامبريالية والتطبيع مع القتلة الصهاينة، عصابات الحرب الإمبريالية الامريكية والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ودعمهم في حربهم الاجرامية وحرب الابادة للشعب الفلسطيني، وهو ما يخضع موارد البلد
- تمرير مخططات تدمر الشغيلة وتقوض حقوقها وتزيد من استغلالهم، والزيادات المهولة والمتتالية في الأسعار، بما في ذلك أسعار المواد الأساسية، مع أثقال كاهل الشغيل وكل الفئات الهشة بالضرائب المباشرة وغير المباشرة، مقابل تجميد الأجور، وتكريس هشاشة الشغل (اعتماد شركات المناولة/العبودية الجديدة، فرض التشغيل بالعقدة، تخريب الوظيفة العمومية..)..-
ثانيا: القوى الإمبريالية والصهيونية والانظمة الرجعية التابعة.
ثالثا: الأحزاب السياسية الرجعية، والقوى الظلامية والشوفينية، والقيادات النقابية البيروقراطية، ادوات النظام المكلفة بمشرعنة جرائمه ومناهضة وتخريب لكل فعل جماهيري مقاوم..
2. لا يمكن كسب هذا الصراع إلا من خلال قوة منظمة سياسيا تقودها وتشكل قوتها الاساسية الطبقة العاملة في تحالفها مع الشرائح الشعبية المطحونة، فهي القوة الاجتماعية التي تنتج الثروة والنقيض الرئيسي للنظام التبعي، وهي الأكثر تضررا من مخططاته.
3. الهدف النهائي ليس مجرد "إصلاح" النظام الحالي، بل قلب مسار التنمية برمته. هذا يعني الانتقال من نموذج يقيس كل شيء بقيمة الربح الخاص إلى نموذج جديد تكون غايته "الإشباع المشترك والكامل لجميع الاحتياجات الشعبية الحديثة". في هذا النموذج، تصبح المعايير هي:
- القضاء على التفاوتات الطبقية في الحصول على الخدمات.
- وضع التكنولوجيا في خدمة المجتمع.
- توفير أفضل الخدمات الممكنة للجميع، وليس لمن يستطيع الدفع.
بناءً عليه، فإن النضال من أجل نظام صحي حقيقي هو جزء لا يتجزأ من نضال أوسع لإنقاذ المجتمع من براثن منطق السوق المتوحش. إنه ليس طريقا للإصلاح التصحيحي، أو لتحقيق شعار "ارحل يا مسؤول" بل "طريق واحد لإنقاذ الشعب: طريق الإطاحة" بهذا النظام الاجتماعي بكل مقوماته. إنها دعوة لبناء الأدوات السياسية الثورية للتأسيس لمعركة الانتقال من مرحلة الدفاع عن المكاسب التي يتم تقويضها، إلى مرحلة الهجوم من أجل بناء عالم آخر، حيث تكون الصحة، مثلها مثل التعليم والسكن والشغل والطاقة..، حقا إنسانيا غير قابلة للتصرف، مضمونا بملكية اجتماعية وتخطيط ديمقراطي لصالح الأغلبية الشعبية.
* نيكولاي سيماشكو الطبيب البلشفي وأول مفوض الشعب للصحة بعد نجاح الثورة في روسيا (أي أول وزير صحة في التاريخ السوفييتي)، ويعتبر الأب المؤسس للنظام الصحي السوفييتي وأحد أبرز المنظرين لمفهوم "الطب الاشتراكي" القائم على الرعاية الصحية الشاملة والمجانية. ورائد في تحويل الصحة من امتياز للطبقات الغنية إلى حق لجميع الناس، وتظل تجربته مرجعية في النقاشات حول دور الدولة في الصحة العامة حتى اليوم. وله قولة مشهورة: "الصحة ليست مسألة طبية فحسب، بل هي قضية سياسية واجتماعية. لا يمكن فصل علاج الفرد عن علاج المجتمع."
......يتبع