مثلت الندوة الصحفية التي نظمتها "لجنة عائلات الشهداء والمعتقلين ومصابي أحداث القليعة" منعطفا مهما في كفاح وتضحيات المناضلين والعائلات وأبناء
القليعة ضد آلة التزييف التي تعمل عليها مؤسسات النظام، ورهانها على عامل الزمن لتأبيد النسيان.
الندوة لم تكن مجرد تجمع إعلامي عابر، بل كانت فعلا نضاليا وسياسيا يواصل خط المقاومة والتحدي وهو يطعن في شرعية رواية النظام ويعري زيفها ويقوض أسسها من الجذور.
فقد كان حضور اسر الضحايا بمثابة تحدي لكل اشكال الارهاب المتواصل الذي تنهجه اجهزة النظام يوميا.
كما كانت شهاداتها المباشرة كشفا للوجه القبيح لما يصطلح عليه بـ"الأربعاء الأسود"، اليوم الذي حول فيه النظام شوارع القليعة إلى ساحة إعدام مفتوحة لابنائها، ابناء الفقراء والكادحين. فالأرقام والوقائع التي تم الكشف عنها تدحض رواية اجهزة النظام المروج لها اعلاميا، وتكشفها كنسخة معادة من سيناريوهات القمع المميتة التي اعتاد النظام استخدامها ضد الحركات الاحتجاجية والنضالية وضد كل من كانوا هدفا لاجهزته القمعية.
القتل بالرصاص الحي لم يكن رد فعل عفوي أو دفاعا عن النفس، بل كان عملاً مدروسا ومتعمدا، كما تظهر الفيديوهات التي توثق استهداف الشهداء (أيوب الرحالي، عبد الصمد أوبلة، عبد الحكيم الدرفيضي) من مسافات تزيد عن مائة متر من مركز الدرك. هذه المسافة تنفي أي ادعاء بوجود ما قيل عنه في سردية النظام بتهديد مباشر يبرر استخدام الذخيرة الحية، وتؤكد أن الأمر يتعلق بعمليات إعدام مدروسة وبخلفية سياسية ترمي لترهيب الشعب المغربي، وبعث رسالة رعب لكل الفعل الاحتجاجي عبر ربوع الوطن.
ونفس السيناريو تواصل وتبين مع حملة الاعتقالات العشوائية وتلفيق التهم.
فالاعتقالات العشوائية التي تلت الأحداث لم تكن أقل إجراما من القتل نفسه. تحولت أجهزة النظام القضائية والقمعية إلى أدوات تنفيذ لمخطط قمع مدروس، حيث تم استخدام التعذيب بالصعق الكهربائي -كما في حالة زكريا الروز- لإجبار المعتقلين على توقيع محاضر مزورة وتوريط ناشطين أبرياء مثل المناضل سفيان كرت، المعروف بنضاله الحقوقي.
هذه الممارسات تكشف ان القضاء استعمل كغطاء قانوني للانتهاكات، وأجهزة "أمنية"/قمعية تعاملت مع ابناء الشعب كأعداء يجب إخضاعهم بكافة الوسائل، بما في ذلك التعذيب.
وقد توقفت الشهادات حول واقع مصابي "الأربعاء الأسود" بحيث أن معاناتهم لم تعد تقتصر على الجروح الجسدية فحسب، بل تمتد إلى حملة ترهيب منظمة تمارس ضد عائلاتهم لمنعهم من المطالبة بالعدالة أو الانضمام للحراك الحقوقي. هذه السياسة المزدوجة -القمع ثم إسكات الضحايا بالترهيب- تكشف عن وعي تام من النظام بجسامة جرائمه، وسعيه الحثيث لإخفاء الأدلة وتفكيك أي محاولة لتشكيل ذاكرة جماعية للأحداث.
كما حاول الحضور المناضل الوقوف حول المسؤوليات مؤكدا كونها لا تقتصر في حدود المنفذين المباشرين بالزي العسكري، فحسب، بل تمتد لتشمل القادة السياسيين والعسكريين الذين أصدروا الأوامر لينفذها العسكريون الصغار أو ساهموا في صياغة سياسات القمع التي تمارس في حق شعبنا، والجهاز القضائي الذي يغض الطرف عن التعذيب ويصادق على الاعتقالات التعسفية، والمسؤولون الإداريون الذين يستغلون الجريمة للترقي المهني على حساب دماء ابناء شعبنا، وكذا أجهزة الإعلام الرسمية التي تروج للرواية الزائفة وتشوه صورة الضحايا..
انها شبكة متكاملة من التواطؤ تُبرز أن ما حدث في القليعة ليس حادثاً معزولاً، بل هو تعبير عن نظام قائم على القمع والإفلات من العقاب.
فندوة عائلات الضحايا هي جزء من مسار طويل يستمد روحه من التاريخ النضالي الذي أرسته عائلات المعتقلين والشهداء ومجهولي المصير في بلدنا، منذ اواخر القرن الماضي، وهي أيضا تعميق للطريق نحو كسر حاجز الخوف وبناء سردية مضادة قائمة على الحقائق. فالكفاح من أجل الحقيقة والعدالة ليس ترفا فكريا، بل تضحية ونضال مع كل المعنيين بقضية شعبنا.
فالدماء التي سالت في شوارع القليعة تذكير مأساوي بأن الشرعية الحقيقية لأي نظام لا تكتسب بالرصاص المصوب لصدور ابناء الفقراء والمعدمين، بل باحترام الكرامة الإنسانية وحق الشعب في تقرير مصيره وصناعة مجتمع يصون مسقبل ابنائه.
