"عندما
تتبعت خطاب الحسن الثاني آنذاك، لم يكن لي علم بأي شيء جرى أو يجري بالمدينة. كنت حينها
أتابع دراستي العليا بالرباط حيث رأيت يده تضرب على مكتبه وهو يذكر أسماء مدن بعينها،
مدينة تلو الأخرى انتهاء بمدينة القصر الكبير.. وقع الاسم خلف رعبا في نفسي وجعلني
أفكر ببيتنا وأسرتي ووالدي.. جعلني أشعر بشيء يشبه اليقين أن مدينتي –
وربما أثناء الخطاب- صارت خارج الخريطة وربما في خبر كان."
هكذا يروي أحد الساكنة
عن تمثله لانتفاضة يناير 1984 دون أن يعيشها مباشرة، هي أشياء يعيشها الناس في وطننا
ويدركونها بمختلف التمثلات التي لا تأتي من فراغ. فالتوقعات غالبا ما تكون واقعية حتى
وإن لم تحدث بمجمل تفاصيلها. كيف لا، وذاكرة الشعب المغربي حبلى بتفاصيل مريرة تسمو
في واقعيتها على البيانات المطرزة من هنا وهناك، وتبتر حبل الأضاليل والأوهام المراهنة
على تغير كنه القائم الاقتصادي- الاجتماعي والسياسي..
كل الظروف كانت مواتية
للانتفاض، آثار العمالة لصناديق ومؤسسات الرأسمال المالي من طرف وكلاء الاستعمار الجديد
كانت بادية على محيا الطبقات الاجتماعية بفئاتها الأكثر هشاشة، التقويم الهيكلي ما
فتئ يثقل كاهل الجماهير الشعبية عبر انعكاساته على جيوب الكادحين، والمتعلمون باتوا
الفئة التي فهمت اللعبة بشكل أكبر وما عاد بالإمكان كبح جماح غضبها، فانبرى التلاميذ
إلى التأطير والتكوين وخوض المعارك النضالية بداخل المؤسسات الثانوية والجامعية وخارجها..
وبالنظر إلى الوضع المتقدم آنذاك للحراك التلاميذي بالمدينة، كانت النضالات تتفجر لتصاغ
الملفات المطلبية الشاملة والملامسة لآثار السياسة التقشفية على مستقبل أبناء الكادحين،
سرعان ما كان يفرض تحقيق جل نقطها. وما من معركة في المعمل أو الحقل إلا ولقيت صداها
بالشارع وبالجامعة وبالثانوية، وتوجت بالتحام الطلبة والتلاميذ بالجماهير المعنية بالتغيير
الجذري. قبل ذلك، من 1959 حتى 1984، مرورا ب 23 مارس 1965 و20 يونيو 1981، لم تكن مدينة
القصر الكبير نشازا نضاليا، ومع توالي أخبار مراكش والحسيمة والناظور وتطوان، عبر إذاعات
أجنبية طبعا، كانت ريح الانتفاضة الشعبية تهب بين قنطرتي نهر اللوكوس، مدخلا ومخرجا.
أصداء أنباء الانتفاضة
شجعت تلاميذ البكالوريا بالثانوية المحمدية على إطلاق الشرارة.. ثلاثون دقيقة تقريبا
من الإضراب بداخل المؤسسة، يوم الخميس من الأسبوع الثالث من يناير 1984 كانت كافية
لتدخل القمع الذي وصل عبر التنكيل والتعنيف وإسالة الدماء حد إشهار الأسلحة النارية.
أ لم يكن إغلاق كل الأبواب دليلا على ارتكاب المجزرة؟ ومن ثم نفس السيناريو القمعي:
تعنيف وتقتيل واعتقالات بالجملة...
لقد صبت هذه الهجمات
الزيت على النار، إذ سرعان ما خرج التلاميذ في مسيرة بالشارع للمطالبة بإطلاق سراح
المعتقل، والتحق بها جمهور غفير من الساكنة "المنكوبة" لتشتعل الاحتجاجات
ولتشن حملة اعتقالات جديدة وبالجملة...
أماكن عديدة لا زالت
شاهدة على الأمس، أماكن لم تستطع سنوات من طمس الحقيقة لتحجب هول الجريمة، مقر الوقاية
المدنية، المركز الثقافي البلدي حاليا، قبو البلدية، مفوضية الشرطة التي لا تتسع لإجراء
"العمليات" اللازمة في مثل هكذا ظروف، مركز "البزبوز سيدي الكامل"،
والأفظع بكثير هو المستشفى المحلي "دار الضو" أو "الباطوار" حيث
غالبا ما كان يتم استدراج المصابين للاعتقال تارة بالحيلة وتارة بالمكشوف؛ أبطال القصة
معروفون وأسماؤهم موشومة في ذاكرة من عاشوا اللحظة بتفاصيلها، منهم من تمت ترقيته ومنهم
من تم نقله لمركز آخر ومنهم من رحل عن الحياة أو بلغ سن التقاعد منذ سنوات.. إنها الجريمة
الأفظع بين كل الأطراف الضالعة والثابت ضلوعها في قمع المنتفضين وهي جريمة بعض الأطر
الصحية، فمعلوم أن رجالات القمع أقسموا ضمنيا وعلنيا على قمع جماهير شعبنا، لكن الأطر
الصحية أقسمت خلاف ذلك، أولئك نفذوا قسمهم بخدمة النظام أما بعض هؤلاء فقد أخلفوا قسمهم
بإنقاذ حياة الإنسان، حين كان المصاب يضطر الى القفز من النافذة وهو يسمع في الجوار
تفاصيل الوشاية به لأصحاب الحال.. أما رواد "الثلاجة" فحول عددهم ظل التعتيم
قائما، وأفظع ما في الأمر هو قتل الذاكرة، فالمعطيات تكاد تكون شبه منعدمة عن أهوال
ما وقع آنذاك بالمستشفى إلا في ذاكرة رواده "بالخطأ" إبان الانتفاضة المجيدة
لساكنة القصر الكبير المقاومة. وحتى المساجد لم تسلم من البوليس والمخازنية لمن ظن
–مخطئا-
أن من دخله في عهد الجلادين فهو آمن.
من يذكر يا ترى؟ من
يذكر الجو المخيم على المدينة قبل وبعد الخطاب؟ من يذكر صمود الساكنة البطولي قبل وبعد
حلول التعزيزات القمعية؟ هي مشاهد متفرقة وسيأتي اليوم الذي تسمع فيه قصص المنكوبين
والمهمشين والمعتقلين والشهداء، فتجمع في صفحات التاريخ الخالدة: اعتقالات في صفوف
الناشطين البارزين في الحركة التلاميذية، التعذيب والتنكيل تارة والترغيب وشراء الذمم
تارة أخرى للوشاية بالمناضلين وتأكيد ضلوعهم في الدعاية والتحريض، قطف شباب في عمر
الزهور وتوزيع سنوات من السجن لمن لم ينجح ذووه أو مالهم في شراء إطلاق السراح. كيف
سيستطيعون إخفاء هذا؟
دار الدخان، باب الواد،
بلعباس، وأحياء أخرى شاهدة على الجريمة، والجماهير لم تتوقف رغم الرصاص الملعلع في
الشوارع، حتى النوافذ باتت محرمة على الرؤوس المطلة حتى لا تحصدها النيران كما حدث
لأحدهم قرب حي سوق الصغير، "لم تبق إلا المدافع لتكتمل اللوحة الشاهدة على حالة
الاستثناء، ولا قوة في العالم تستطيع محو صورة أجهزة القمع وهي متجمدة أمام الجماهير
الغفيرة الماسكة بسلاح الانتفاضة والحجر، تفصل بين المعسكرين سكة القطار الوحيدة التي
أنشأها المستعمر، والرصاص المنبعث من المروحية قال كلمة الفصل"، يروي أحد السكان
المنتفضين آنذاك.
مجيء التعزيزات وحلولها
المشؤوم أشبه بما حدث في الانتفاضات الأخيرة التي تلت تاريخ 20 فبراير في مناطق مختلفة
من المغرب، سوق "لالة رقية" تم نهبه، البحث في المنازل عن "المشتبه
فيهم" كان في أوجه، حصار غذائي رهيب واستمرار الاعتقالات حتى بعد مرور أسبوعين
عن اندلاع الانتفاضة. وبين يوم وآخر، أو- للدقة- بين ليلة وأخرى، كانت شاحنة تزور مكانا
مظلما من "الجبانية –المقبرة
المتاخمة لضريح مولاي علي بوغالب- في ركن معلوم مطل على "المصلى"، ركن لم
يدفن فيه أحد بعد رغم اكتظاظ المقبرة من كل جوانبها برفات سكانها "الأبديين"..
ركن لم تكشف عنه تقارير هيئة "الإنصاف والمصالحة" (الكذبة المخزية)، التي
اكتفت بالتصريح عن ثلاث أو أربع حالات يتيمة، في حين أن شهادة واحدة من شهادات سكان
الأحياء المنتفضة تؤكد استشهاد ثلاثة إخوة من أسرة واحدة، ودفعة واحدة.
تقاريرهم ولغتهم المتواطئة
والجبانة أرادت محو الحقيقة، والنظرة المنكسرة لكن الوضاءة بالأمل وقابلية الانتفاض
المطلة من محيا القصريين الذين عاشوا مرارة الأحداث تقول خلاف ذلك، أية حقيقة وأية
مصالحة ولا حديث عن رفات المطمورين على شاكلة رواد تازمامارت لكن بشكل أرقى، ولا حديث
أو فضح للمقابر السرية ولحالات الاستشهاد المتواترة إلا بحناجر مبحوحة ومتعبة من الصراخ؟
من يذكر الشهيد محمد بوبكرة، مبدع المتاريس ومفند أكذوبة السلمية؟ من يذكر استشهاده
في سجن سات فيلاج بطنجة من وطأة التعذيب في المخافر المظلمة وبعدما حوكم بعشرين سنة؟
أسماء، بل وعائلات بعينها لا غير طفت على سطح المياه الراكدة، وسيأتي اليوم الذي ستكشف
فيها الحقيقة، كل الحقيقة للجماهير.
مهربون؟ وهل تركوا
لسكان هذه المدينة آنذاك وبعد ذاك بسنوات من مفر غير هكذا حرفة؟ ماذا يفعل من يضيق
درعا من وطأة الفقر ومن هم دون الأعيان والإقطاعيين والفلاحين الكبار والسماسرة وأصحاب
الدخل المرتفع والمستقر والمجرمون المحترفون (الكمبرادور والملاكين العقاريين...)؟
حتى التهريب قد جز دابره بعد ذلك لتغوص المدينة في أوحال السرقة والجريمة على مرأى
الجميع من أكبر مسؤول إلى أبسط "مواطن". إنهم يحقدون على المدينة المنكوبة
حقدهم على الجماهير ومقتهم لنضالاتها البطولية وملاحمها عندما تنسد أمامها الآفاق،
ويبقى خير شاهد على هذا الحقد الدفين تجاه تاريخ المدينة وحاضرها ومستقبلها واقع الحصار
الذي يدفع بالجماهير المسحوقة إلى الموت البطيء. لقد أهملت المنافذ التي توصل إلى المدينة،
فما أشبه الأمس باليوم، وقد تم إنشاء طريق مباشرة نحو العرائش كشكل من أشكال غضب النظام
الذي أراد تحدي غضب الجماهير وفرض العزلة وقطع سبيل أية إمكانية للنماء والازدهار بحكم
قوانين الطبيعة والثقافة، ولعل القادم من جنوب البلاد إلى شمالها عبر الطريق الوطنية
سيدرك حتما أنه ليس ثمة مدينة تلي قوس "الديوانة" الاستعماري تدعى القصر
الكبير...
واسألوا أيضا العديد
من ضحايا القمع السياسي الذين اعتقلوا إبان انتفاضة يناير 1984 بالقصر الكبير، بعد
أن أنهكتهم الاعتصامات والإضرابات عن الطعام بالرباط وخارج الرباط، دون أن يجدوا الآذان
الصاغية أو من يسوي أوضاعهم، وذلك في الوقت الذي يتبجح فيه النظام وأزلام النظام بطي
صفحة الماضي ..
شارك هذا الموضوع على: ↓
الدعوة بيهم لله لن أسامح من كان السبب في...
ردحذف