في الأيام الأخيرة خرج مقال للتداول الصحافي لصاحبه "عبد الرحمان النوضة" السياسي "اليساري" الشرس، أيام ثوريته، الذي أعلن توبته بعد انهيار جدار برلين
وقايض تضحيات شعبنا و"نضاله السياسي"، مثله مثل جيل من التائبين، بمقابل يضمن استقراره المريح، وهذا التذكير ليس بمحور أو رغبة للنبش في أتربة الزمن الرديء الذي غطى خيانات الأفراد قبل الجماعات، بل للقول أن من المصائب ما يقع على رؤوس صانعيها، وهي بلا شك عدالة التاريخ تأخذ مجراها وتذكرنا من الفينة وأخرى ببائعي الضمير والصامتين على الإجرام والمحتمين والمحميين ب"يسار" اهتم في عمق أعماله على نصب شباكه لذات الحثالة وعلى إخفائه، لحد الطمس والتواطؤ، لأشياء كثيرة.
وبعد التمحيص، من كل الواجهات، لمقال السيد "النوضة" لم أجد فيه ما يتجاوز فكرة الدفاع عن أطراف سماها اليسار واعتبار كل من ينتقد أو يفضح يساره يخدم "بوعي أو بدون وعي" النظام، إضافة لحشو كلامي دون أساس لتجريم، بمختلف المغالطات والحجج وبدون سياق، لتجربة مناضلي حركة "20 فبراير الدار البيضاء" المعروفين ب"أحرار 20 فبراير" المتمسكين بالدفاع عن "حركة 20 فبراير" كحركة تحررية منحازة لشعبنا وللطبقات التي لها المصلحة في التغيير، ولكل القوى الثورية التحررية التي تهدف للتغيير الجذري ...
ولنقاش أفكار صاحبنا نستهل بالسؤال المفصلي: من هو اليسار الحقيقي؟ هل اليسار هم الجالسون على يسار المؤسسة التشريعية عملا بالتقليد الفرنسي أم أن اليسار هم المنظمات والأحزاب التي تقول عن ذاتها يسار؟ وهل اليسار لدى "النوضة" هو اليسار لدى "أحرار 20 فبراير الدار البيضاء"؟ إن السيد "النوضة" قد حسم موقفه وتحديده ورتب على مقاسه دون عناء التحليل ولا التدقيق في يساره، حاصرا إياه في "حزب اليسار الاشتراكي الموحد وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي وحزب النهج الديموقراطي وحزب المؤتمر الاتحادي". ولما لا وهو، أي هذا اليسار المشكل من هذه الأحزاب، من وفر مواطن الدفئ لكل المراجعين والمتراجعين. لهذا فـ"النوضة" لمّا أشار للنقد والفضح، أو ما سماه الهجوم، الذي يمارسه شباب "أحرار 20 فبراير" على اليسار فهو لا يتحدث عن اليسار بفهم دقيق تستدعيه مهمة البحث والتحليل الصادق والواضح والعلمي بل يعني السيد "النوضة" اليسار أعلاه... وخلاصته في تصنيف "أحرار 20 فبراير" كأعداء لليسار هو تغليط مبني على فهم يحد اليسار المغربي في حدود مزاج وخيار مصلحي للسيد "عبد الرحمان النوضة" بعيدا كل البعد عن البحث في التكوين الاجتماعي في المرحلة الراهنة وعن الطبقات التي لها المصلحة في مناهضة النظام فعلا من أجل تغييره والتي تمثلها هذه الأحزاب أو تلك. وهي من أكبر المغالطات المقصودة والمبنية على خلفية مقيتة أبان عنها السيد "النوضةٍ" في عودته لتجربة أحزاب رجعية (ركّبها الدكتاتور الحسن الثاني في عهده وكذا تجربة صدي محمد السادس في صناعته لما يسمي ب"الأصالة والمعاصرة") للمقاربة والمقارنة بينها وبين شباب "حركة 20 فبراير الدار البيضاء" في شخص "أحرار 20 فبراير الدار البيضاء"، والتي تهدف مخاطبة العقول البسيطة لخلق إجماع ضد الشباب الثوري الذين لم ينصاعوا أو يخضعوا، بعد تجربة مريرة، لخطوط الانتهازية وحدودها في ممارسة اللعبة المكشوفة مع النظام، وكان نصيبهم من جراء ذلك السجون والقمع والمضايقات والمطاردات... ليكون السيد "النوضة" بالفعل صادقا في قوله "الانتهازية تحتاج إلى الكتمان، أو السّرية، أو المجاملة، أو المناورة" "وقول ''الحقيقة'' هو مبدأ ثوري". إذا فالمحصلة المؤكدة، أن من يمد الشباك خطأ ضد الآخرين لا بد أن تصطاده شباكه.
أقول أن السيد "النوضة" لما دشن المراجعة وسط موجة من الشباب المرتد في نهاية الثمانينات كانت أولى المراجعات هي تغيير الموقف من القوى الإصلاحية الانتهازية آنذاك أي "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" و"التقدم والاشتراكية" و"منظمة العمل الديموقراطي الشعبي" إلى قوى ديموقراطية تقدمية وليست فقط أحزابا يسارية (وآنذاك لم يكن مفهوم اليسارية هو الطاغي في تحديد الانتماء بل كان مفهوم "التحرر" هو المفصل بين القوى، أي هل القوى تحررية أم قوى لا علاقة لها بالتحرر، وهذه الملاحظة قد تهم القارئ لفهم جوهر الاختلاف والاستهداف الذي يرمي له السيد "النوضة" في تقاطع مع العدو لمحو مفهوم التحرر من قاموس الأدب السياسي في بلادنا). وها هو اليوم يزيح من لائحته هذا البعض ويدخل بعضا آخر.. إذاً فالسيد "النوضة" بوعي أو دون وعي، وهو ما نستبعده-أي عدم الوعي-، محكوم بتطورات الصراع. لذا يجد نفسه خاضع بقوة الأشياء لفكرة: "أن يسار الأمس قد يصير يمين اليوم وأن يسار اليوم قد يصير يمين الغد"، كفكرة لا مفر منها. وهذا يثبت أن اليسار هو في العمق الاجتماعي ظاهرة سياسية مرتبطة بالصراع داخل المجتمع ومحكومة بتطوراته. لهذا لما يستوجب الأمر الحديث عن اليسار نكون مدعوين للوقوف على الصراع الطبقي في المجتمع وعلى تطوراته. والفاصل في عملية التموقع في اليسار أو اليمين هو الموقع الذي تحتله هذه الطبقة أو تلك أو هذه الفئات أو تلك في الصراع من أجل التغيير أو الحفاظ على النظام وبجانبها تعبيراتها السياسية. والتعبيرات السياسية اليسارية أو الأحزاب اليسارية هي التعبيرات أو الأحزاب التي تقود نضالات الطبقات والفئات التي لها مصلحة في الخلاص من نظام الظلم والاستغلال والاضطهاد، الذي يكبل قواها ويعيق تطورها وتحررها، وتنظمها وترسم لها آفاقا ثورية لتغيير النظام. أي أن اليسار هو تعبيرات سياسية حقيقية لطبقات اجتماعية تقف على يسار الصراع في مرحلة محددة من التاريخ ومؤهلة للعب دورها في قلب المعادلة وإزاحة الطبقات الرجعية المكبلة لأي تقدم وتحرر اجتماعي.
وهنا يستوجب القول والتذكير بعمق المواقف التي يعبر عنها مناضلو "أحرار 20 فبراير"، أن النظام القائم في المغرب هو نظام ا و عميل للمستعمرين الإمبرياليين والصهاينة، ومُنصَّب ومحمي من قبلهم، يخدم مصالحه أي مصالح الكمبرادور والملاكين العقاريين الكبار والبيروقراطية العسكرية والمدنية المبنية على الفساد والنهب لخيرات شعبنا ولدمائه، في المعامل والحقول والمناجم والبحار، والمرتبطة مصالحهم بواسطة آلاف الخيوط بالمستعمرين ويعملون على المزيد من التفقير لشعبنا. وأن الطبقات الشعبية، العمال والفلاحين الفقراء والمعطلين والطلبة والتلاميذ والتجار الصغار والحرفيين وغيهم من الملايين المتضررة من سيطرة طغمة الكمبرادور العميلة وزبانيتها، لا حل لمشاكلها وأزماتها سوى بإزاحة النظام الحامي للمصالح الطبقية النقيضة، وهذا هو المشروع الحقيقي لأي يسار ممكن الحديث عنه. وهنا يلوح سؤالان منهجيان متلاحمان من الناحية الواقعية: هل يستطيع شعب، ومنه الشعب المغربي، التحرر من قبضة الأعداء بدون أحزاب يسارية تقود معاركه وتنظمه وتثقفه؟ وإن كان الجواب لا، فمن هي هذه الأحزاب اليسارية فعلا؟ وهذين السؤالين يطرحان أهمية الترابط بين الاستراتيجية والخط السياسي، بحيث لا يمكن التفكير خارج النظرية الثورية لتحديد العدو وتحديد الصديق والحسم في قضايا جوهرية مرتبطة بالقضية المركزية والجوهرية أي قضية التخلص من نظام يعيق التقدم والتطور ويكبل قوى الجماهير ويخضعها لأبشع أساليب الاستغلال والاضطهاد.
ولهذا يستوجب السؤال: هل هناك يسار خارج الجماهير المعنية بالتغيير؟ أكيد لا معنى ليسار خارج عن الجماهير التي تعاني الاستغلال، كما لا معنى له دون مصالحها المرتبطة موضوعيا بالثورة على النظام القائم. وهذا لا يمنع أن يدعي هذا أو ذاك أو هذا الحزب أو ذاك بأنه يساري. فبين الادعاء والحقيقة مسافة الممارسة المبدئية. فاليساري الحقيقي هو من ينخرط وسط الشعب في نضاله وفي مستويات تطوره من أجل تقديم الصراع وتنظيمه وقيادته لتحقيق أهداف الشعب، أما الادعاء وفقط فهو مجرد خطاب إديولوجي يتوخى تحويل التضحيات إلى أرصدة للمصالح الخاصة للنخبة السياسية، وما تكتيك الحديث باسم اليسار دون تمثيله عمليا سوى لعجز الأحزاب المدعية لليسارية عن تحقيق مصالحها الأنانية لوحدها. لهذا تعلن الميل اللفظي لليسار للمقامرة والمساومة والمتاجرة على حساب تضحيات الشعوب، مروجة للرأي القائل:"أن الحزب هو من يستطيع تحقيق المصالح وليس قوة الجماهير المنظمة والموحدة على مبدأ التغيير". وهذه الحقيقة شهدها تاريخ الصراعات الطبقية منذ امتدادات بعيدة إلى اليوم، وكانت الفئات الوسطى أو ما يعرف في الأدب السياسي والنظري ب"البرجوازية الصغيرة" صاحبة هذا التكتيك أو المشروع الذي يصنف لدا كل الثوريين في خانة الانتهازية. لأنها تجد نفسها مدفوعة بقوة الرأسمال الكبير للنزول الطبقي وفقدان مواقعها ومصالحها، ولهذا تكون محكومة بالتذبذب بين الأطراف الرئيسية في الصراع، وتصنع أحلامها التسلقية في التوافق الطبقي بين الأطراف المتناقضة، أي الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية.
إن الأحزاب المصنفة في خانة اليسار لذا السيد "عبد الرحمان النوضة" أهدافها السياسية ومصالحها الاستراتيجية واضحة لا لبس فيها، فأقصى ما تنادي به، كنداء وفقط، هو "الملكية البرلمانية" أو "إسقاط المخزن"، ولا علاقة لها بالتغيير ولا بالتحرير ولا بإسقاط النظام الملكي الرجعي الممثل لمصالح الكمبرادور والملاكين العقاريين الكبار والبيروقراطيين العسكريين والمدنيين، ولا علاقة لها بمناهضة الاستغلال الذي تعاني منه الجماهير الشعبية وبالدرجة الأولى منتجي الثروة أو يسار المجتمع الحقيقي، أي الطبقة التي لها المصلحة فعلا في التغيير. فهي أحزاب ملكية تروج لمشاريع الملكيات الضاربة في الرجعية والمنتعشة بدماء الشعوب وبحروب النهب وبشراء صمت النقابيين والسياسيين والصحافيين.. بالفتات، أما اهتمامها بنضالات الجماهير فهو في حدود المراكمة لتحقيق أهدافها الأنانية الضيقة البعيدة كل البعد عن ستار "الملكية البرلمانية" أو "إسقاط المخزن" بكل وضوح على أرض الواقع الحي ودون أن يلف ذلك أي غموض، و تجربة انتفاضة 20 فبراير اثبتت أن هذه القوى، كما كان في السابق، غير مؤهلة للدفاع حتى عن شعاراتها وأهدافها، بل خانتها وعانقت القوى الظلامية في أوج الانتفاضة الشعبية على أرضية المشروع السياسي الوهمي لإمساك القبضة من الخلف بحركة 20 فبراير، كما فيها من قامر وباع التضحيات وانحاز الى جانب العدو والاتفاقيات والصفقات المشبوهة والمشهودة والمسجلة كشاهد حي على ذاك. فلا حرج على صاحبنا بإضافتها للائحته اليسارية مادام البيع قاسم مشترك (هناك من باع نضال الشعب وهناك من باع رصيده الخاص). وهذه الحقائق يجهر بها "أحرار 20 فبراير" وللأسف أن صاحبنا "النوضة" يتجاهل هذه الحقيقة، والتي يسمعها كل متتبع للتجمعات العامة ولكتابات "أحرار 20 فبراير الدار البيضاء" على مواقع التواصل الاجتماعي، باختلاق الجمل المنافقة والكاذبة الموجهة للعقول البسيطة ولخدمة العدو عن وعي.. وبالمناسبة أتساءل وبدون مزايدات: من قدم الضرائب منذ انطلاق حركة 20 فبراير غير المنادين بالثورة وبشعار "إسقاط النظام"، والذين يصطف إلى جانبهم مناضلو "أحرار 20 فبراير"؟ أم أن هذه الحقيقة الساطعة لا تخدم أهداف الكاتب المأجور..
يتبع (حول الافتراءات والكذب والمغالطات)
شارك هذا الموضوع على: ↓