لم يسبق أن فكرت في الكتابة عن العيد داخل الزنزانة. ومساهمتي هذه تبلورت في أجواء الحديث الذي أخذ حيزا كبيرا في الوسائط الالكترونية، وخاصة الفايسبوك، عن معتقلي الريف ومناسبة عيد الأضحى.
وأغتنم الفرصة لأعبر عن تضامني مع كافة المعتقلين السياسيين وعائلاتهم والتزامي بالنضال من أجل إطلاق سراح الجميع بدون استثناء.
لا يخفى أن المناضل وهو في خضم الصراع الطبقي، محرك الحياة السياسية الصاخبة، وفي ظل نظام دموي لا يميز بين المرأة والرجل أو بين الطفل والشيخ عندما يشعر بالخطر الحاذق بمصالحه الطبقية، لا يستبعد الاعتقال وكذلك الاغتيال، وليس فقط التضييق والتشريد... أما أن يقضي العيد أو أي مناسبة أخرى، كفقدان أحد أفراد العائلة أو حضور حفل عائلي أو غير ذلك من المناسبات سواء السعيدة أو الحزينة، وهو داخل السجن، فالأمر أهون وأرحم. وتكون القدوة أمام أعين المناضل سواء كان داخل السجن الصغير أو السجن الكبير، هي الشهداء الذين قدموا دمهم من أجل قضيتنا/قضيتهم، قضية شعبهم؛ الشهداء الذين رحلوا دون عودة الى الديار (الأب والأم والأطفال...) أو الى الرفاق والأصدقاء... وفي جميع الأحوال، فللمناضل قضية يدافع عنها بكل الأشكال النضالية من داخل السجن ومن خارجه. وإذا كان لابد أن نحزن، فمن العار أن نتجاهل أو أن يطوي النسيان أمام أعيننا الجاحظة جريمة إعدام المناضل عمر دهكون ورفاقه صبيحة عيد الأضحى.. أما كان يجب مقاطعة ذلك العيد (الوليمة المرة) منذ ذلك التاريخ؟ أين الذاكرة، بل أين التعاطي النضالي مع الذاكرة؟ إنها الجراح التي لا تندمل.
ولا ننسى أن المناضل بوبكر الدريدي قد اعتقل في سن التاسعة عشرة (19) وحكم بخمس (05) سنوات سجنا نافذا، وخاض الى جانب رفاقه إضرابا لامحدودا عن الطعام استشهد إبانه الى جانب الرفيق مصطفى بلهواري في غشت 1984. وأضيف أنه إبان احتضار مجموعة مراكش في إضراب بطولي عن الطعام، كان عيد "الديمقراطية" (الانتخابات التشريعية) في أوجه. شارك في تلك الانتخابات الأحزاب المسماة إدارية (أمر بديهي) وكذلك الأحزاب المسماة ادعاء "وطنية ديمقراطية" (الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي). وانتخابات 1976 الجماعية وانتخابات 1977 التشريعية (أعياد الديمقراطية المفترى عليها)، ألم تجر تلك الطقوس القاتلة والسجون مليئة بالمعتقلين السياسيين وبمشاركة القوى "العتيدة" حينذاك، الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية؟ إنها الدروس التي تتلاشى عند أقدام صيحات اليوم الباردة (الرصاص الأبيض)..
ولأن الحدث يحيلك على آخر، من يتذكر تلاميذ انتفاضة 1984 بمراكش، الذين اعتقلوا وجلهم كان يتابع الدراسة بمستوى الإعدادي آنذاك، وحوكموا بسنتين (02) سجنا نافذا، وزج بهم في زنازين سجني الصويرة وأسفي الى جانب معتقلي الحق العام الذين "عاتوا فسادا" في أجسادهم البريئة؟ من يتذكرهم؟ ألم يكونوا أطفالا؟
أولا، الأمر يهم جميع المعتقلين السياسيين بدون استثناء. فمن باب الإجحاف (حتى لا أقول شيئا آخرا) الاهتمام بمعتقل سياسي دون آخر. نتفهم بعض الصعوبات والاعتبارات التقنية غير المحكومة بخلفية سياسية؛ لكن، لا مبرر موضوعي للتركيز بخلفية سياسية على أسماء دون أخرى، بل التركيز الممل على أسماء وإقبار أسماء أخرى وعن "سبق الإصرار والترصد". وهي ممارسة أقل ما يقال عنها إنها غير مقبولة وتنم عن انتهازية مرفوضة، ممارسة متخلفة لا تخدم بأي حال قضية الاعتقال السياسي، سواء في بعدها السياسي كقضية طبقية، أو في بعدها الأخلاقي والإنساني (التضامن مع إنسان مظلوم!). يمكن لبعض وسائل الإعلام أن تمارس هذه "اللعبة" القذرة بإيعاز من النظام وزبانيته (انتظار العفو، التعتيم على معارك المعتقلين السياسيين وعائلاتهم ورفاقهم...)، لكن أن تمارس من طرف من يدعي الدفاع عن المعتقلين السياسيين وعائلاتهم، وخاصة بعض الأحزاب السياسية والجمعيات، فالأمر مرفوض بالمطلق. إنه التضليل وببعض المعاني مشاركة في الجريمة.
وأذكر للتاريخ يوم تأسست اللجن وقامت الدنيا ولم تقعد إبان اعتقال محمد نوبير الأموي. طبعا نددنا باعتقاله كمعتقل سياسي وتضامنا معه ومع عائلته، لكننا أحسسنا بالغبن حينه عندما تم تجاهل وتناسي أعداد هائلة من المعتقلين السياسيين وعائلاتهم، ومنهم معتقلون سياسيون في أوضاع صعبة. كان الكل تقريبا يتحدث "الأموي" ولا شيء غير الأموي.. لا نريد لأخطاء الماضي أن تتكرر. ولا نريد صنع الأصنام و"الأسد" الورقية التي تلتهمنا وتتواطأ ضد قضية شعبنا فيما بعد..
ثانيا، الأمر يهم بالدرجة الأولى عائلة المعتقل السياسي. وفي غالب الأحيان تكون العائلة مدركة لجريمة اعتقال ابنها ورفاقه. وقبل أي عيد، فالمناضل معني قبل غيره بالتواصل مع عائلته، وبدون شك قادر على تفسير معنى أن يكون مغيبا وبعيدا عنها في مناسبة العيد وفي أي مناسبة أخرى. والى جانب المعتقل، هناك رفاق المعتقل خارج السجن، وهناك أيضا العائلات. وقد لعبت هذه الأخيرة في تجارب عدة أدوارا رائعة وعن وعي ثاقب في التخفيف من المعاناة التي تتقاسمها، بل خلقت من المعاناة أجواء الفرح انتصارا على الجلاد والسجان.
لقد عشنا نحن بعض رفاق الشهيدين الدريدي وبلهواري سبعة أعياد بعيدا عن العائلة، وليس داخل السجن فقط، بل في إضراب عن الطعام وعزلة تامة في زنازين المركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد (موريزكو) بالدار البيضاء، حيث الزيارة ممنوعة بالنسبة للجميع وعلى طول تلك السنوات، سنوات الجمر والرصاص..
كيف كانت تقضي عائلاتنا أعيادها؟
لم تكن طبعا فرحة لاعتقالنا؛ لكن اقتناعها بعدالة قضيتنا، كفكفت دموعها وشمرت على ساعدها وخاضت المعركة تلو الأخرى الى جانب المناضلين داخل المغرب وخارجه حتى انتصار معركتنا، معركة الشهيدين. فلم تكن لتنزوي وتندب حظها العاثر. ولم تكن تحتفل بعيد ولا بغيره، ولم تكن تعير للأمر كثير اهتمام. الأيام تمر والسنين كذلك. لقد جعلت العائلات الحياة رغم مرارتها تسير في دورتها الطبيعية. لقد فقد الرفيق نور الدين جوهاري أحد إخوته في صمت. تألم لا ريب في ذلك، لكنه لم يهزم ولم نتوقع أن يهزم. فمناسبة فقدان عزيز ليست كمناسبة عيد، بما في ذلك عيد الأضحى.
وحتى ما وفرته وسائط الاتصال الالكترونية في مجال "التهاني والتبريكات" ساهم في خوض "المعارك" الهامشية (FAUX DEBATS)، وفسح المجال أمام انهمار دموع التماسيح التي أغرقتنا في وحل الشكليات دون العمق النضالي في التعاطي مع قضية سياسية كقضية الاعتقال السياسي.
إن المعتقل السياسي في حاجة الى خوض المعركة، كل من موقعه، من أجل إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين، خدمة لقضية شعب مكافح قدم ما يكفي من التضحيات. وليس ذرف الدموع وتهييج العواطف والعزف على الأوتار الحساسة (العيد أو غيره) أشكالا نضالية تشرف المعتقل السياسي وقضية الاعتقال السياسي.
كيف كنا نقضي العيد داخل الزنزانة؟
كنا نحس بالفخر. كنا نعتز بكوننا نمارس الصراع على أشده ونقف وقفة الثوار أمام جلاد/سجان لا يرحم. كنا نعي أهداف النظام من عزلنا وتغييبنا، كنا ندرك أن المعركة سياسية وتستوجب النضال والصمود لهزم الجلاد/السجان. كنا نغني أغاني الفرح والتحدي وأغاني الثورة. كنا نسرب الرسائل الى عائلاتنا نحثها على الصمود والوحدة. كنا نصنع العلاقات الإنسانية الجميلة لتخريب الحصار المضروب علينا. كيف صمدنا لما يزيد عن ست سنوات في عزلة تامة (الإضراب عن الطعام، "التأكيل" القسري عبر الأنف، الأيادي مقيدة الى الأسرة، الزيارة ممنوعة، بدون نظافة، بدون ترفيه، بدون إعلام، بدون أدوات الكتابة، بدون تطبيب...)؟ كيف لا نصمد لأنه العيد؟!! إن أحد أسرار صمودنا هو الثقة في قدراتنا النضالية وفي ثوريتنا وفي صدقنا وفي الاقتناع بقضيتنا، قضية شهدائنا، قضية شعبنا. أليس سوق العيد كسوق الانتخابات، "الشناقة" في كل صوب وحدب، وفي كل منعطف؟ لا بعد ديني ولا بعد أخلاقي.. المكر والخداع والنفاق والوعود الزائفة.. نقاطع العيد كما نقاطع الانتخابات (كل الدساتير ممنوحة).. عيدنا لم يأت بعد، إنه عيد شعبنا، عيد خلاصه وتحرره. إنه العيد الذي نتقاسم فيه الفرح مع الشهداء وكل المناضلين والجماهير الشعبية وفي مقدمتها العمال والفلاحين الفقراء، الأكثر بؤسا واضطهادا والأشرس دفاعا عن مصالحهم وقضاياهم..
نحب أن نقول هذا ونكرره، ليس هوسا أو تباهيا أو مزايدة، بل لوضع النقط على الحروف. لقد عانى المناضلون قبلنا أكثر مما عانينا. ونريد أن يقاوم المعتقلون السياسيون، كل المعتقلين السياسيين وكذلك عائلاتهم دون أن ينتظروا الشفقة أو "تعاطف" الشامتين وهواة امتطاء المناسبات الحزينة والاسترزاق عليها (VAUTOURS POLITIQUES). إن الصراع لا يرحم، والبحر اللجي أرحم من البركة الآسنة..
بكل صدق، لا مجال بعد الآن للعاطفة المزيفة.. إن في التاريخ ما يفيد المعتقل السياسي والمناضل أيضا.. مزيدا من الصمود والمقاومة...
1 شتنبر 2017
شارك هذا الموضوع على: ↓