بداية، لا أقصد المعتقلين السياسيين السابقين المناضلين. فعدد منهم ما فتئ
يقدم التضحيات تلو التضحيات رغم كل الصعوبات، وخاصة تبعات الاعتقال والتعذيب وبرودة الزنازين وسنوات السجن الطويلة والتشريد والإضرابات عن الطعام.. إلا أن عددهم يكاد يكون على رؤوس الأصابع. قد نختلف معهم، إلا أنهم حاضرون سواء هنا أو هناك (أحزاب سياسية، نقابات، جمعيات...). ولا يمكن إلا ان نحيي حضورهم وصمودهم ومساهماتهم.. وبالمناسبة أحيي شهداءنا الذين قدموا دمهم لنستمر نحن ولتستمر المقاومة والنضال من أجل قضية شعبنا المكافح.
إني أقصد بكل أسف العدد الهائل من المعتقلين السياسيين السابقين الغائبين، والغياب هنا عن ساحة النضال وعن ساحة الاحتجاج وعن ساعة الحقيقة.. فلا يخفى أن التاريخ يسجل أسماء أعداد هائلة من المعتقلين السياسيين من مختلف الأجيال والشرائح/الفئات الاجتماعية.. ومنهم من كان نصيبه الإعدام، ومنهم من حكم بالسجن المؤبد، وآخرون قد نالوا ثلاثين سنة سجنا نافذا وعشرين سنة وما إلى ذلك..
أولا، إن الصراع الطبقي حرب مستمرة (حرب طبقية). وبالضرورة يعرف (أي الصراع الطبقي) المد والجزر ولحظات الفرز، وبالتالي هناك من صمد وواصل ويواصل المعركة الى جانب الجماهير الشعبية المضطهدة وفي مقدمتها الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، وهناك من استسلم نهائيا وقدم الولاء بهذه الطريقة أو تلك؛
وثانيا، فالغائبون المعنيون هم من استسلم وقدم الولاء للنظام القائم.. وتراهم يمارسون من موقع النقيض، ويعطون "المشروعية" المفتقدة لإجرام النظام..
لقد عشنا الانسحابات الفردية والجماعية، بمعنى الاستسلام وتقديم الولاء، منذ الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. لكن السقوط المروع أو الهجرة الكبرى انطلقت منذ أواخر التسعينات من القرن الماضي (هدايا لجنة التحكيم المسمومة وسقوط "جدار برلين"...)، وتضخمت بعد تشكيل "هيئة الإنصاف والمصالحة"، لدرجة لم يعد الاستسلام وتقديم الولاء عيبا أو خيانة؛ بل صار تحديا وانتصارا.. وقد لمسنا ذلك بمرارة مع تنصيب ادريس بن زكري على رأس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بعدما كان على رأس "المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف". ونعلم كيف نصب فوق "جراحنا" رغما عنا، بل بعد إقصائنا.. فليتحدث اليوم من أنجحوا "عرس" الجلاد الجديد، ومن باركوا ميلاد الجلادين الجدد..
لقد استفاد الغائبون، أو جل الغائبين، من المال العام، وبتفاوتات غريبة.. وقد اختاروا الصمت تعبيرا عن العرفان والامتنان.. ومنهم من يتلذذ حتى الآن وبدون خجل في "التحليق" فوق رؤوس ضحايا الأمس واليوم.. إنهم جلادون بدرجات أرقى من درجات جلادي الأمس..
لا أسعى الى النبش في الجزء الأسود من ذاكرتنا (إنها الذاكرة المشتركة رغما عنا)، لأن ذلك يؤلم وقد يحبط.. إلا أن الحقيقة تفرض نفسها.. فلا أملك نفسي أمام الحقيقة وأمام التاريخ، بل أمام القضية، قضية شعب..
لا أخفي أني في بداياتي في درب النضال، كنت أعتقد أن كل معتقل سياسي مناضل. وأكثر من ذلك، كنت أعتقد أن كل مناضل، سواء اعتقل أم لم يعتقل، عدو للنظام القائم.. ومن هذا المنطلق خضت "ما تيسر" من النضالات والمعارك من داخل ثانوية أبي العباس السبتي ثم المدرسة العليا للأساتذة بمراكش ومن خارجهما..
إلا أن المفاجآت غير السارة كانت فوق كل اعتبار.. تبخرت الأحلام وتهدمت أسوار "المدن الفاضلة".. والفظيع أن الانحدار قد تواصل وبسرعة قياسية.. اختلطت الأوراق وتشكل القطيع كالتيار الهادر..
لقد وقفت على الحقيقة المرة قبل الاعتقال، حيث أدركت حجم الخيانات وموجات الردة من داخل السجن ومن خارجه. وكم ووجهت بالجملة المتشفية (وأحيانا الحاقدة) "كم من واحد/مناضل كان يقول نفس الكلام، إلا أنه اليوم يقول ويمارس نقيضه"!! وكان جوابي/لازمتي باستمرار "ليستسلم من يستسلم، لكن هناك مناضلون صامدون داخل السجن وخارجه". وكم مرة قدمت اسم ابراهام السرفاتي بالسجن المركزي بالقنيطرة والمحكوم بالسجن المؤبد كرمز صامد في وجه النظام، كتعبير عن التحدي والصمود واستمرار المعركة.. وكم تحدثت بفصاحة عن الحركة الماركسية اللينينية المغربية، وخاصة منظمة "الى الأمام".. وكم "غرقنا" في الجمل الإنشائية..
وحصل أن اعتقلت، وحكمت بخمسة عشر (15) سنة سجنا نافذا، بتهمة "المؤامرة الغاية منها قلب النظام". إنه الأمر الواقع.. إنها الحقيقة المرة.. لا مجال للمزايدة أو الادعاء.. لا مجال للعاطفة.. لا مجال "للجمل الإنشائية"..
بالنسبة لي كان العبء الأول هو مواجهة العائلة. كيف يمكن إقناع العائلة (الأم والأب بالخصوص) بصواب رأيي أو طريقي...؟ كيف تتفهم الانتقال من مشروع "أستاذ" (السلك الثاني، مادة الرياضيات) الى معتقل سياسي، مشروع "مشرد" أو مشروع شهيد...؟ كيف تتقبل اعتقال/غياب أو اختطاف منقذها/أملها الوحيد من أجل الخلاص من البؤس والفقر؟ علما أن كل رفاقي العشرة الذين خاضوا الإضراب اللامحدود عن الطعام، أول إضراب لمجموعة مراكش، يوم 04 يوليوز 1984، طلبة وتلاميذ، أي أمام المصير المجهول..
لقد هان كل شيء أمام الاقتناع الراسخ بالقضية. فليست العائلة أهم من شعب، وليست الوظيفة أو قضية العائلة أسمى من قضية شعب..
داخل السجن، نعم داخل السجن.. إنها المحنة الحقيقية.. إنه الحصار المتعدد، حصار النظام وأزلام النظام وحصار الرفاق "الأعداء".. لقد طالنا الحصار وطال عائلاتنا، خاصة بعد الطور الثاني من معركة الشهيدين الدريدي وبلهواري.. الطور الذي دام أكثر من ست (06) سنوات من الإضراب عن الطعام والزيارة الممنوعة، بالتمام والكمال..
داخل السجن، سقطت أوراق التوت على كل "العورات"، عورات الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات و"الرفاق" (معذرة عن هذا التعبير).. إنه الألم والحرقة وحب/عشق الحياة أيضا..
وحتى الآن، أتذكر تلك اللحظات العصيبة والبئيسة.. أتذكر التعذيب بواسطة الكهرباء وفي المناطق الحساسة.. أتذكر فرح الجلاد وقهقهاته اللئيمة أمام صرخاتنا وآهاتنا من شدة الألم والمعاناة.. أتذكر الكاشو ونتانته وحشراته وزواحفه.. أتذكر ملامح الموت التي كانت ترتسم أمامنا، بل التي كانت تهاجمنا ليلا ونهارا.. أتذكر تشرد عائلاتنا بين محطات القطار والحافلات (مراكش، اسفي، الصويرة، الدار البيضاء، الرباط).. أتذكر اعتقال أختي وأخي (أصم وأبكم) في صمت القبور.. أتذكر طعنات الغدر.. أتذكر الإجرام الذي طالنا وعائلاتنا.. أتذكر التنكر لنضالاتنا ونضالات عائلاتنا.. أتذكر الويلات والغبن والذل والاحتقار.. أتذكر الحقد الذي كنا نراه في أعين الجلاد..
وأكثر من ذلك، أتذكر الخيانات التي طالت نضالات شعبنا من طرف الأحزاب السياسية والنقابات...
وأستسمح الجميع، أتذكر خدمات الجنود المجهولة.. أتذكر تضحياتهم وبطولاتهم التي فاقت تضحياتنا وبطولاتنا..
ما أروع جنود وجنديات الخفاء..
ومن عاش هذه التجربة لن يغيب.. ولا يمكن بأي حال أن يغيب..
وبكل صدق، سأواصل المعركة حتى آخر رمق، اقتناعا أولا، وتحديا ثانيا... أقولها أمام التاريخ..
لماذا هذه العودة الى الوراء؟ لماذا وضع الأصبع على هذا الجرح الغائر؟
إنه التاريخ..
إنها دروس التاريخ.. إنها الذاكرة المؤلمة التي لا تموت (ولو أرادوا لها الموت)..
تألمنا، وسنتألم من أجل قضية شعبنا.. إنها قضية تستحق أن نتألم من أجلها..
نحن الى جانب كافة المعتقلين السياسيين، نحن الى جانب العائلات، كمعتقلين سياسيين سابقين وكمناضلين دوما وأبدا..
نعلم أن هناك من يعمل ليل نهار وبتنسيق مع الأجهزة القمعية من أجل خلق الهوة بيننا تحت مختلف الشعارات.. ولنترك التاريخ يكشف "عورته".. لقد علمتنا المحن أن التاريخ "يمهل ولا يهمل"..
فمن يناضل من أجل قضية شعب من داخل السجن أو خارجه، فليواصل المعركة بعنفوان وليرفع التحدي ورأسه في السماء.. ومن يسعى الى خدمة مصالحه الضيقة فإلى مزبلة التاريخ، ومن أي موقع، من داخل السجن أو من خارجه..
وأخيرا، كيف لمن كان هذا منطلقه وديدنه وحقيقته أن يغيب عن نضالات شعبه اليوم أو غدا؟!! وفي نفس الوقت، كيف له أن يستغرب غياب "الغائبين"..
لقد غابوا منذ زمن بعيد.. وسيغيب أمثالهم بعد حين..
وهناك من غاب قبل أن يغيب..!!
فلتتواصل المعارك تحت نيران/قصف العدو..
ولتتواصل في ظل الخيانات وطعنات الغدر..
لتتواصل في ظل الحضور والغياب..
لتتواصل من داخل السجون ومن خارجها..
وإن النصر آت، وإن غدا لناظره قريب..
شارك هذا الموضوع على: ↓