سجل التاريخ، منذ القرن الماضي، العديد من الثورات والانتفاضات وخلد العديد
من الرموز الثورية وأسدل الستار عن خريجي المختبرات السرية من الأبطال الورقيين. وجزء مهم من هذه التجارب كان في ظل الجزر العميق لحركات التحرر عبر العالم. وقد عايشنا وتتبعنا العديد منها على المباشر، وجرت نتائجها أمام أعيننا. والكثير من هذه الثورات والانتفاضات كانت تهدف الى إسقاط النظام الرأسمالي. لكن في جلها، لم تتخلص الشعوب من عدوها ولم تتعد إصلاحات طفيفة في أفضل التجارب وخيبات الأمل في غالبيتها؛ حيث حافظت على أسس العلاقات القائمة في المجتمع على حالها دون تغيير، وعلى مجمل النظام الذي شكل مصدر شقاء وحرمان الجماهير العمالية والكادحة، مع عودة أعداء الشعوب إلى السلطة بحلي ورموز جديدين، وخير نموذج تونس ومصر. وفيها من تربع على رأسها أكثر القوى رجعية وظلامية، ولو أن الجماهير الشعبية من عمال وفقراء الفلاحين وكادحي المدن والطلبة والمعطلين...، هي التي ولجت الساحات وقدمت المعتقلين والشهداء والمعطوبين. لكن نتائج تضحياتها لم تتجاوز تسليم السلطة لجلادين جدد لتجديد الحماية لنظام الرأسمالية مثلما أن القيادات السياسية التي برزت في الساحات لم تتجاوز أهداف الطبقات المسيطرة، أي متطلبات استمرارية النظام الطبقي الرأسمالي.
واليوم، مطالبون بالبوح جهرا أمام شعبنا وأمام القواعد المناضلة وبكل جرأة وبالإجابة عن السؤال: من أجل ماذا يقاتل الشيوعي؟ وأي طبقة يعبر عن مصالحها بوضوح؟ وما هي طبيعة الثورة التي يهدف لإنجازها؟ وما هو الخندق الذي يخوض منه القتال؟ والى جانب من؟ وهل يمكن للشيوعي أن يخوض القتال الى جانب الأعداء الطبقيين وأعداء الشعب؟ ومن يتحدث باسم الشيوعية وليس له الجرأة ليجيب عن هذه الأسئلة فرجاء منه أن يعتق مفردة "الشيوعي"، فتاريخها المرتبط بالكفاح الثوري الأممي للعمال لا يقبل الابتذال. فالشيوعي حين يتحدث عن النضال الثوري فهو يتحدث عن الثورة العمالية ضد النظام الرأسمالي وفي بلد تابع هي ثورة تحرر تقطع مع الإمبريالية والصهيونية وكل الأنظمة الرجعية وتفتح الآفاق للبناء الاشتراكي، أي الثورة التي تقلب المجتمع القائم من أساسه ليس من أجل الهدم بل من أجل البناء، من أجل المساواة بين البشر؛ من أجل العدالة؛ من أجل محو الطبقات والاستغلال الطبقي. فالشيوعي لا يقبل بعدالة تلزم الشعوب بصب الثروة في جيوب أقلية من مالكي وسائل الإنتاج كإطار للسلم وتأمين البقاء على قيد الحياة. والشيوعي لا يمكن أن يكون قاطرة تجر العمال والكادحين وفقراء الفلاحين والطلبة والمعطلين لخندق ممثلي البرجوازية باسم الماركسية أو الديالكتيك كما يحلو القول لعشاق ومعانقي أهل العتمة/الظلام. ومهما كان المبرر والحشد النظري فهو في آخر المطاف خدمة واعية للنظام الرأسمالي، وفي العمق إشارة اطمئنان، على المكشوف، للأنظمة الإمبريالية. وفي تاريخ الخيانة والردة دروس وعبر..
إن مصير أي ثورة محكومة بطبيعة أهدافها الفعلية وبتكتيكاتها المنسجمة وبعدها الاستراتيجي. فبعدما تتبعنا مصير ثورات المنطقة المغاربية والعربية في السنوات القريبة الماضية، ها نحن اليوم أمام تجربة الشعب السوداني البطل بقيادة "قوى الحرية والتغيير" والتي تنشد اليوم، وبعد تضحيات بطولية للشعب، نقل السلطة للمدنيين من خلال مفاوضات تجري تحت رعاية الأنظمة الرجعية الافريقية العميلة، إثر انتقال السلطة ليد المجلس العسكري بعد رحيل عمر البشير لهدف بناء "الدولة المدنية". والصيغة الأخيرة، أي "الدولة المدنية"، كانت المنفذ/المخرج الذي شكل أرضية الإجماع لليمين الظلامي واليسار الليبرالي لإنقاذ نظام البرجوازية الكمبرادورية في تونس من العاصفة "الثورية" سنة 2011 التي لم تترك لهم أي خيار للاختلاف. وليس في شعارات "قوى الحرية والتغيير" ولا في تكتيكها ما يستهدف النظام الرأسمالي التبعي ولا مصالح القوى الاستعمارية والرجعيات الخليجية والإفريقية. فلا نستبعد أن تحقق هذه الثورة في حالة نجاحها، طبقا لما تنادي به، أي قوى الحرية والتغيير، بعض المكتسبات الجزئية، لكن مصيرها محكوم بطبيعتها وهو في أقصى تقدير: وصول قوى الحرية والتغيير للمشاركة في السلطة السياسية وتحقيق التداول على السلطة مع بقاء النظام الرأسمالي قابعا على أكتاف الشعب السوداني. وهو ما يعني استمرار التردي الاجتماعي وإنتاج الفقر والبطالة ما لم تستأنف الحركات الثورية معركة النضال من أجل إسقاط النظام الرأسمالي.
فحين نتحدث عن النظام السوداني لا يعني أن الحديث محصور في حدود المخلوع عمر البشير أو المجلس العسكري، أي في حدود أدوات الطبقة الرأسمالية العميلة والتابعة المسيطرة في السودان باعتبارها الطبقة الحاكمة فعليا. ولذا فإسقاط هذه الأدوات دون إسقاط الطبقة الحاكمة وتحطيم دولتها والقضاء على مصالحها ومصالح القوى الاستعمارية والرجعيات الخليجية والقواعد العسكرية الأجنبية وبناء السلطة الطبقية المناهضة لها في شخص العمال والفلاحين الفقراء وكل الفئات التي تعاني من الاضطهاد والاستغلال، لن يتحقق شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، والنموذجان التونسي والمصري صورة حية وتاريخية ماثلة أمامنا.
إن طبقة الرأسمالية التابعة والخادمة لمصالح الاستعمار وللرجعيات الخليجية والتركية طبقة واضحة ومعروفة أفرادا وعائلات وعصابات ومصالح واستثمارات ومشاريع ورؤوس أموال، وكل هذا التكوين المترابط لم يعد محصورا في الجهاز النظري وليس تكوين شبح أو رموز فالصراع حتم على الجميع نافذين وطفيليين وفاسدين ومرتشين والمنتفعين من جهاز الدولة، وحتى على أسيادهم الاستعماريين والصهاينة ووكلائهم في منطقة الشرق الأوسط وتركيا وافريقيا، الخروج إلى الواجهة بتكتيكاتهم وأسلحتهم وأموالهم وإعلامهم وحكوماتهم وأحزابهم، بيمينها ويسارها، ونقاباتهم وجمعياتهم...، لمنع أي تجذر للمسار الثوري في السودان. لكن هؤلاء هم أقلية، ولكنهم منظمون ومسيطرون على موارد البلاد وثرواته ومنضبطون لقرارات القوى الاستعمارية والاستخبارات الاجنبية ويتلقون العون والضمانات والدعم المباشر وغير المباشر. وهم من سيساهم حسب نتائج مفاوضات جرت برعاية من الأنظمة الرجعية في المنطقة للإشراف على ما سمي ب"المرحلة الانتقالية". وهؤلاء هم الأعداء الذين يطوقون شعوبنا ويحاصرونها من كل الجهات ولا سلاح لها للمواجهة والاستمرار على درب الشهداء سوى سلاح التنظيم المتماسك والصلب بقيادة علمية وحكيمة. وهذه طريق الثوار لبناء قوة، وهي قوة الأغلبية، بدل البحث عن القوة في خندق الأعداء الطبقيين والقتال إلى جنبهم.
إن المعركة على تسليم السلطة للمدنيين أو على الرئاسة أو على المجلس السيادي معركة مضللة لطبيعة الصراع، لأن معركة الجماهير الشعبية عنوانها: يسقط النظام وتسقط كل مؤسساته وهياكله وأجهزته، ولا معركة تتقدّم على معركة التحرر من قبضة الإمبريالية وقواها الطبقية الوكيلة من كمبرادور وملاكين كبار ودولتهم وممثليهم من أحزاب رجعية وانتهازية وقيادات بيروقراطية نقابية كانت أو جمعوية وفي إسقاط هذه الطبيعة عن الثورة أو ابتدالها، أي طبيعة المعركة الحقيقية والتاريخية. وجهة نظر العمال وكل الكادحين يتم التسليم بمصير الثورة. إن طريق الأغلبية هو تغيير جذري يطيح بالطبقة الفاسدة ويحاكمها على نهبها للبلاد وعمالتها وجرائمها وتشريد للملايين وتفقيرهم وتجهيلهم وخلق حياتهم واغتيال العديد من أبنائهم الشهداء.. وليس التباري معها في انتخابات للتناوب على السلطة بهدف تأمين مصالح الرأسمال. فلا أمل للحديث عن غد أفضل تحت سقف الرأسمالية. ومن المهازل أن يتصدر المشهد ثوار اليوم جنبا لجنب الفاسدين والمجرمين والجلادين والزاحفين على بطونهم وأن تسود الأوهام وتغطي على كل شيء في مرحلة يسمونها انتقالية. فأي توافق هذا وأي "ازدواجية للسلطة" يمكن الحديث عنها. أليس ذلك مسخرة من شعب انتفض على الظلم وقوى النهب ثم يعاد تحت طلاسم الشعارات البرجوازية لقبضة الجلادين ليحكموه. إن التغيير الحقيقي لن يتم من داخل المساحة التي يسمح بها أو يتيحها النظام الرأسمالي مهما كانت المفاوضات. فهذا الخيار في أقصى تقدير ينشد التغيير بالوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها مرورا بصناديق الاقتراع الشفافة والنزيهة.. فهل سيقود هذا المسلك نحو التغيير الحقيقي وهل سيتخلص الشعب السوداني فعلا بكذا تكتيك من النظام الرأسمالي؟ إن شعار "الشعب يريد اسقاط النظام" لا معنى له دون إسقاط النظام الرأسمالي التبعي وبناء نظام وطني ديموقراطي شعبي يفتح الآفاق للبناء الاشتراكي، وهذا هو المعني الحقيقي لهذا الشعار الذي يتعرض للمسخ على تربة بلادنا بتحويره لشعار "الشعب يريد إسقاط المخزن" كطريقة من طرق تقديم الولاء الضمني للنظام والاستعداد لحمايته بتزيين التمردات برداء وديع وملون والترتيب لعملية الدوران في الحلقة المفرغة.
ألم نتجرع المرارة مما آلت إليه التجربة التونسية والمصرية؟ ألم تثبت العديد من التجارب التي ادعت التقدمية والوطنية والديموقراطية وسارت على نفس الطريق واتخذت من مؤسسات الدولة البرجوازية قاعدة لها من أجل الإصلاح والتغيير زيفها وانكشف أفقها الليبرالي ولم ينفع الترميم ولا استبدال الرجال الفاسدين بالشرفاء في إنقاذ مشروعها البرجوازي الذي أصبح عائقا لتحرير الملايين من قبضة الفقر والظلم والاستغلال، لأن معادلة الفقر والغنى هي معادلة ملازمة للنظام الرأسمالي؟! وما الفائدة من "الدولة المدنية"، دولة التوافق بين القوى الظلامية والقوى الليبرالية، غير تمكين الطبقة الكمبرادورية من إعادة بناء سيطرتها المطلقة؟! وما الجدوى من شعار التغيير الحقيقي في ظل تكتيك سياسي يربط مصير الحركة بأهداف وطريق يرضي الإمبريالية والأنظمة العميلة والقوى الظلامية؟!
وأما فيما يتعلق بأدوار القوى الظلامية على ضوء تجربة الواقع الحي نقول هل التاريخ لم يقدم لنا ما يكفي من دروس وعبر حية للجواب عمن تكون الحركات "الإسلامية" (الظلامية)؟ وماذا يعني حضورها أو تسللها وركوبها أو مواكبتها للموجات الثورية؟
إن التاريخ قدم ما يكفي من الدروس لتقييم مواقفنا من القوى الظلامية والحسم العلمي في هذا المحور وتقديم جواب صارم من وجهة نظر مصالح الطبقة العاملة ومشروعها التاريخي. وأن كل العناصر التاريخية تثبت أن القوى الظلامية تقف في خندق الأعداء الطبقيين وتدافع عن مشروع متخلف ورجعي يهدف لتأمين وإنقاذ الأنظمة الرأسمالية وتأبيد الدكتاتوريات والاستبداد وحماية مصالح طبقات الكمبرادورية والملاكين الكبار والمرتبطين اقتصاديا بمصالح القوى الاستعمارية والقوى البترودولار وإعطائها شرعية مستمدة من "وحي السماء". فمثلا، بالأمس القريب كانت القوى الظلامية تهلل بالرئيس السوداني عمر البشير، وكانت تعتبره من أحد رموز "الخلافة الإسلامية"، واليوم بعد أن ثار الشعب السوداني البطل تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" وأرغم رمز "الخلافة الإسلامية" في السودان للتنحي عن السلطة انقلبت القوى الظلامية في مواقفها السياسية بدون مقدمات واندفعت بسرعة لركوب الموجة وإعلان مواقف مناقضة لما كانت تتغنى به في السابق. وبالمناسبة نسوق نموذج جماعة العدل والاحسان الظلامية بالمغرب والتي انقلبت بسرعة خيالية وبزاوية 360 درجة في موقفها من الرئيس المخلوع عمر البشير لتنهي بجرة قلم تلك الصورة الوديعة والنظيفة والمهيبة التي رسمتها عنه باعتباره خليفة في الأرض ل"الواقف على عرش السماء" لتثبت أن المبادئ والثبات في الموقف لا يهم بالقدر ما يهم تكتيك عدم ترك الحركة الجماهيرية تنفلت من قبضة البرجوازية وقطاع الطرق واللصوص ومصاصي الدماء. وهذا تكتيك القوى "الخبيرة"/المخبرة باتجاهات الرياح الأميركية بالدرجة الأولى وتضع خبرتها وجيوشها، المنزوعة المخالب والأنياب عندما يتعلق الأمر بقضايا الشعوب، في خدمة الاستراتيجية الاستعمارية.
إذن، هل الجماهير في ظل أوضاع تدفعها للتمرد والانتفاض مطالبة بالانتظار لحين إخلاء الساحة السياسية من القوى الظلامية، ومن أمثال هذه الكائنات السياسية بأزيائها المختلفة، لكي تتمرد وتقوم بثورتها؟ بالتأكيد هذا غير ممكن لأن اندفاع الجماهير للتمرد تحكمه قوانين موضوعية. لذا فالقوانين تقول إن اندفاع الجماهير للتمرد تحكمه قوانين موضوعية. وبالتالي فالقوانين تقول إن الثورة لا تنتظر رغباتنا ولا حساباتنا ولا أوهام العناصر البرجوازية الصغيرة. إذن أين الخلل؟ هل في تمرد الجماهير في شروط تسمح للقوى الظلامية أو الليبرالية من ركوب الموجة الثورية؟ أم في قوى قادرة على تمثل المصلحة الحقيقية للجماهير وفي مستوى مواجهة القوى الظلامية وكل الكشكول السياسي الذي ترعاه الأنظمة العميلة والقوى الاستعمارية وسط الجماهير ومن داخل المسار الثوري وتعرية أهدافهم الرجعية والمصالح التي يمثلونها باعتبارها متناقضة جذريا مع مصالح الأغلبية من عمال وفلاحين فقراء والكادحين؟ إن الخلل الحقيقي يكمن في غياب القوى التي بمقدورها قيادة الجماهير لبناء بديلها السياسي والمجتمعي والاقتصادي المتناقض جذريا مع مصالح القوى الطبقية العميلة والبياعة والوكيلة والراعية لمصالح الامبريالية والصهيونية والرجعيات الخليجية والمتحكمة في ثروات البلاد وتهريبها والمالكة لوسائل الانتاج.
شارك هذا الموضوع على: ↓