2019/08/21

حسن أحراث // عندما يبكي المناضل...

هل تصدقون؟ المناضل يبكي!!

أولا، وببساطة، يبكي المناضل لأنه إنسان. فعقل المناضل عقل إنسان وكذلك قلبه وجوارحه... إن المناضل يبكي ويضحك ويفرح ويحزن ويحب ويلعب...، المناضل يعشق الحياة والجمال والصدق والبساطة والوضوح...
المناضل يبكي، وقد يبكي في أعماقه ودون أن يشعر به أحد، عندما يجرح أو يخذل أو يغدر أو يهان من طرف الأقربين والمقربين، أصدقاء أو رفاق أو أشباه ذلك... 
المناضل ليس وحشا أو "عفريتا"، وليس فظا، وليس حقودا أو جاحدا، وليس كذابا أو مفتريا... 
المناضل إنسان بكل معاني الكلمة.. المناضل يجتهد ويبدع ويكافح.. المناضل يسقط وينهض.. المناضل يصيب وقد يخطئ.. المناضل يواصل المسير إذا أصاب ويعتذر (يقدم النقد الذاتي) إذا أخطأ.. 
المناضل خدوم ومتواضع ومتسامح مع بنات وأبناء شعبنا وليس مع الأعداء الطبقيين...
المناضل قدوة، أخلاقيا (قيميا، من القيم) واجتماعيا وسياسيا...
يقولون "الدين المعاملة"، ونقول "النضال المعاملة".. ولا معاملة بالنسبة للمناضل بدون الخلفية النظرية، السياسية والإيديولوجية المناضلة...
قال حكيم: "لا ممارسة ثورية بدون نظرية ثورية"، وتساءل حكيم آخر: "من أين تأتي الأفكار السديدة؟". ولحسن حظنا، أنه أجاب نيابة عنا: "من الممارسة السديدة"..
وبتبسيط منا، لا ممارسة سديدة بدون نظرية سديدة، في علاقة جدلية بين النظرية والممارسة... 
وطبعا (وبدون شك)، المناضل شرس (بالمعنى الإيجابي) في الدفاع، بل والاستماتة بالغالي والنفيس في التشبث بمواقفه ومرجعيته ومناصرة الحق وكشف الحقيقة والتصدي للظلم والذل والقهر، وأيضا مناهضة الخيانة والغدر وكل ضروب وأصناف النكوص...
ومن لا تتوفر فيه هذه الصفات ليس مناضلا. أعتذر إذا لم أشر الى صفات جوهرية أخرى من صفات المناضل...
ثانيا، المناضل أكثر تأثرا وإلحاحا والتزاما ومسؤولية وصلابة وصمودا وهدوء وتبصرا... وعندما يبكي، فلأن طعنة الأقربين موجعة وقاسية؛ ولأن عزلته وحصاره فاقا الحدود؛ ولأن عطاءه لم يعد مقنعا له وللآخر؛ ولأن طموحه وتطلعاته أكبر من إنجازاته، ليس لأوهام في ذهنه، بل لعناد الواقع الذي كثيرا وكذلك انبطاح المتخاذلين ما ينتصر على تحديه وتضحيات وبطولات شعبه؛ ولأن من يناضل من أجلهم لم يقتربوا منه بما يجب ولم يقترب منهم بما يكفي؛ ولأنه يحمل "صخرة سيزيف" ليس لوحده، لكن أشبه بأن يكون لوحده (ليس أنانية، بل اقتناعا رغم الواقع المر الذي عز فيه أن تجد مناضلا حقيقيا)... 
وفي جميع الأحوال، المناضل لا يبكي في حضرة الأعداء، إنه يبكي في أحضان رفاقه أو في صمت. والأمر سيان، إذا كان الرفاق رفاقا حقا.
وللتأكيد وبالبنط العريض، فدموع المناضل دموع قوة، وليس دموع انهزام أو خضوع أو ردة. 
مناسبة هذا الحكي الذي قد يكون مملا أو مثاليا هي 20 غشت 1989. الشهر الذي سرق منا رفيقين عزيزين، الشهيدين بوبكر الدريدي (27 غشت 1984) ومصطفى بلهواري (28 غشت 1984) في عز شبابهما وعطائهما النضالي، دون أن نعلم حينه بخبر استشهاد الرفيق عبد الحق شبادة (19 غشت 1989). ويستحق شهر غشت اليوم بعد استشهاد الرفيق عبد الحق والرفيق مصطفى مزياني (13 غشت 2014) وكذلك الشهيد خلادة الغازي (02 غشت 2017) أن يكون مقبرة الشهداء بامتياز...
دائما وفي إطار إبداعات المناضلين، ومنهم المعتقلين السياسيين، حصلنا بطرقنا الخاصة في ظل منع الزيارة طيلة إضرابنا اللامحدود عن الطعام (أزيد، نعم أزيد من ست سنوات)، على مذياع صغير، تناوبنا على الاستفادة منه بواسطة عملية "توصيل/إمداد" غير معلومة لدى الحراس وطاقم التمريض، وأحيانا بمساهمة منهم.
ماذا بعد؟ أو ماذا حصل بالضبط؟
في 20 غشت 1989، كان برفقتي المذياع الصغير (حبنا الكبير)، نافذتنا على العالم الخارجي والتعبير الملموس عن كسرنا للحصار والطوق المضروبين علينا. ومساء ذلك اليوم الاستثنائي، عم هدوء مثالي في دهاليز المستشفى الجامعي ابن رشد (موريزكو) الذي نعتبره تازمامارت الثانية. وهو ما مكني من الاستفادة القصوى من حبنا الكبير، كم كنت محظوظا!!. 
وبالصدفة، تابعت مسرحية إذاعية حول ذكرى "20 غشت 1953". كانت مسرحية تحكي عن المقاومة وتضحيات المقاومين وبطولاتهم، ولو بخلفية رجعية وتضليلية/تغليطية. وأحسست حينها وكأن الأمر يعنينا مباشرة، لأننا نحن وشهداء شعبنا وباقي المناضلين المقاومون حقا، لأننا نحن، بالمعنى الجمعي، وليس الخونة وعبيد الاستعمار، من ضحى ويضحي حقيقة من أجل الشعب وكرامة الشعب وحرية وانعتاق واستقلال الشعب المغربي...
أحسست حينها بالظلم، أحسست ب"الحكرة"، أحسست بالغبن، أحسست بالتنكر لنا ولعائلاتنا وللشهداء وللقضية من طرف الكثيرين، وخاصة أشباه الرفاق والمناضلين والمتخاذلين، أحسست بالخناجر المسمومة تنغرس في لحمنا وبالأيادي الآثمة تخنقنا بدون شفقة... 
وأحسست في الآن نفسه بالقوة ومعنى التضحية ولمست ارتفاع درجة الصمود والتحدي في داخلي، خاصة وتضحية رفيقينا الشهيدين مصطفى وبوبكر والشهيد عبد الحكيم المسكيني (19 يوليوز 1984) وبطولات جنود الخفاء في صفوف العائلات وعناصر الحراسة وطاقم التمريض (بنات وأبناء شعبنا، وحذاري رجاء من فقدان الثقة في عظمة شعبنا، بناته وأبنائه، وكافة الشعوب المضطهدة التواقة للتحرر والانعتاق). 
وأن تقاوم إجرام النظام و"عبقرية" جلاديه وزبانيته المعلومة والمتسترة رغم كل تلك الإحباطات وتلك المرارة والدعاية المغرضة وذلك الحصار القاتل، فليس الأمر هينا أو عبثا... وليعتبر من يدعي النضال اليوم (النضال الناعم) عبر وسائط أو وسائل التواصل الاجتماعي المريحة والمزايدات الرخيصة والتنطع المرضي الافتراضي...
وللتاريخ، لم أشعر حينذاك، إلا والدموع قد أغرقتني رغما عني، لدرجة أخفيت رأسي بواسطة "الكاشة" حتى لا يكتشف أمري من طرف الحراس، خاصة المتعاطفين، ويعتقدون أني انهزمت/استسلمت أو ضعفت أو ركعت... 
لقد كانت دموع قوة وتحفيز والتزام بالعهد، بل تجديد للعهد ومواصلة المعركة بكل ما يتطلبه الأمر/الواجب النضالي والأخلاقي من تضحيات، وذلك ما كان وعلى رِؤوس الأشهاد، الأمس واليوم..
وأحكي الآن والدموع تغلبني، ليس استدرارا للتعاطف/العطف أو دغدغة العواطف (لست في حاجة لذلك، على الأقل الآن). إنها دائما، سواء سرا أو علانية، اليوم أو غدا، دموع قوة... 
إنه سر صمودنا وإخلاصنا لرفاقنا في السجون وخارجها وللشهداء ولقضية شعبنا وفي طليعته الطبقة العاملة...
كل المجد والبطولة والخلود في هذا الشهر/المقبرة وباقي شهور السنة، لرفاقنا الذين ضحوا بحياتهم من أجل قضية شعبهم/قضيتنا، الرفاق الدريدي وبلهواري وشبادة ومزياني وكافة الشهيدات والشهداء...
كل الوفاء لرفاقي في مجموعة مراكش 1984 وكل المجموعات، كل الاعتراف بنضالات وتضحيات عائلات كل المجموعات وكل من آزرنا ووقف بجانبنا وعائلاتنا، من مناضلين ومحامين وجنود الخفاء... 
إن المعركة مستمرة...
ولتكتمل الصورة، أحدثكم عن المذياع أو "الحب الكبير" بعنوان "السرقة الموصوفة"، نقلا عن كتاب حسن أحراث "مجموعة مراكش.. تجربة اعتقال قاسية":
"كم تساءلت عن معنى السرقة الموصوفة، ولم تتح لي فرصة معرفة الجواب إلا بعد مدة.
كان ذلك قبل الاعتقال. ولم يكن قد خطر ببالي ولو مرة واحدة أني، في يوم ما، سأنفذ سرقة موصوفة، أي التخطيط وترتيب عملية سرقة.
حصل ذلك بجناح (FOYER DE MEDECINE)، فوق مقاطعة المستشفى الجامعي ابن رشد سنة 1988.
اشتد علينا الحصار، خاصة بعد إتلاف الرفيق الحسين باري لجهاز راديو صغير، وهو يحاول تكييفه لمتابعة أخبار إذاعة البوليزاريو. وبالمناسبة فهي الجهة الإعلامية (الإذاعية) التي واكبت معاركنا منذ بدايتها وساهمت بشكل كبير في فك العزلة التي انخرطت فيها الجهات الإعلامية المحلية باستثناء جريدة أنوال.
وبعد انقطاع الأخبار عنا، تملكني غضب مثير، وأحسست بالغبن (الحكرة). وأجج النار في صدري تصرف أحد عناصر الحراسة. كان شابا حيويا، لا يترك أي فرصة ليشمت في زملائه. كان كثير الحركة، والى جانب ذلك كله، كان يستمتع من حين الى آخر بالموسيقى المنبعثة من جهاز راديو صغير (وجميل). فكلما أحس بملل الحراسة كان يتوجه الى حقيبته في إحدى زوايا زنزانتي وينصت الى مذياعه.
كم كان ذلك يستفزني، وكم تمنيت الحصول على مثل ذلك الجهاز! 
نظرت الى المسافة التي تفصلني عن الحقيبة، وتأكد لي أنها أطول من أن يظن "صاحبي" أني قد أقطعها وأنا مشدود الى السرير الذي أرقد عليه، خاصة وأنه هو من وضع الأصفاد في معصمي. ولا يمكن بأي حال أن يعتقد أني قد أستطيع حمل السرير حتى زاوية الزنزانة.
كانت كل الاحتمالات والتقديرات تحثني على اقتراف "جريمتي"، كجريمة كاملة (CRIME PARFAIT).
فعلا، وفي الوقت الميت، أي وعناصر الحراسة في عجلة من أمرهم بمغادرة الجناح، نزعت الأصفاد بتقنية خاصة، وتوجهت في غفلة من "صاحبي" المنشغل الى جانب زملائه بمراقبة طلائع فريق الحراسة الموالي، الى الحقيبة، فأخذت المذياع وقبلته قبلة حارة وعدت الى سريري وأصفادي.
وضعت المذياع تحت حزام سروالي (سروال المستشفى الأزرق) وغصت تحت "كاشة" المستشفى، ثم تابعت حركة الحراس المرتبكة بفعل تأخر فريق الحراسة الموالي.
لم يحتمل "صاحبي" ذلك التأخر وقصد حقيبته، بل مذياعه. كانت صدمته قوية وهو يفتك بمحتويات الحقيبة. سألني عمن يكون قد تجرأ وأخذ مذياعه. فأجبته بحزم يخفي رعبا داخليا قويا: "بيناتكم".
توجه الى زملائه وهو يصرخ في وجههم: من أخذ مذياعي؟ من سرق مذياعي؟
لسوء حظه، غص الجناح بالفريق الموالي وانصرف زملاؤه وهم يقهقهون ودون أن يصدقوا التهمة الموجهة إليهم.
وبذلك، حصلنا على مذياع كنا في أمس الحاجة إليه.
مذياع جميل.. تابعنا من خلاله إذاعة البوليزاريو..
إنها فعلا، جريمة كاملة..
معذرة" 
وإلى حكي آخر.. تحياتي..



شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق