عرف العمل السياسي المنظم بالمغرب أوجه/قمته في مراحل سابقة، سواء
العلني منه أو السري. ونتج عن ذلك تضحيات جسيمة؛ وكذلك بالنسبة للعمل النقابي والثقافي، لدرجة ارتبط معها اسم المناضل بالإطار الذي ينتمي اليه (حزب أو نقابة أو جمعية). كان منسوب المصداقية قويا مقارنة مع درجة الانهيارات والتواطؤات. وفيما بعد، وبشعارات زائفة ومضللة، حصل التراجع بشكل فظيع وكذلك التنكر لذلك الإرث المتميز، لكن التحدي النضالي الذي يفرضه واقع الصراع الطبقي مستمر بهذه الصيغة أو تلك بكل المجالات متجاوزا انبطاح الأحزاب السياسية والقيادات النقابية والجمعوية، وهو ما راكم بدوره رصيدا هائلا من البطولات (شهداء ومختفون ومعتقلون سياسيون ومنفيون).
الآن صار العمل السياسي، المنظم أو غير المنظم، "مبتذلا"، خاصة وفقدان الثقة في الممارس السياسي فردا أو حزبا، وتواتر الانكسارات، بل والخيانات والفضائح. فلم يعد يخفى اليوم أمام "النهضة" الإعلامية الالكترونية بالدرجة الأولى، أن الانخراط في الحياة السياسية ليس في جزء كبير منه غير "استثمار" بشع لحماية المصالح الطبقية بالنسبة للبعض، وللتسلق الطبقي بالنسبة للبعض الآخر. والضحية كما دائما هو العمل السياسي الجاد والمسؤول الذي يهدف الى التحرر والانعتاق من براثن الاستغلال والاضطهاد الطبقيين. وما أشرنا اليه ينطبق الى حد بعيد على العمل النقابي والنشاط الثقافي، خاصة بعد انتفاضتي 20 يونيو 1981 ويناير 1984..
طبعا، لم يحدث هذا التحول السلبي بين عشية وضحاها، أو من تلقاء ذاته. لقد كشر النظام القائم على أنيابه للحفاظ على امتيازاته، مستفيدا من التحولات الطارئة دوليا وجهويا وإقليميا من جهة، ومن الإملاءات الامبريالية عبر مؤسساتها المالية من جهة أخرى. ولجأ الى كل أساليب الخضوع والتركيع، ومنها الترغيب (شراء النخب) والترهيب (القمع)، لقتل العمل السياسي المنظم (الشرعي، بمعنى القانوني) وإفراغ العمل النقابي والثقافي من أي مضمون كفاحي. ولابد هنا من الإشارة الى مؤامرة تشجيع الأنشطة "التنموية" (الجمعيات التنموية) وسخاء التمويل بما في ذلك الخارجي، خاصة ببعض المناطق المغربية، من أجل سحب البساط من تحت أقدام العمل النضالي، سواء السياسي أو النقابي أو الجمعوي/الثقافي (تجفيف المنابع). وبرز ذلك بالعين المجردة من خلال الهجرة المتدفقة نحو "العمل التنموي" (تمويلات "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" ومجالس الجماعات والعمالات والجهات وكذلك الصيغ الجديدة للتمويل/التوريط...)
ويلاحظ أن قلع (الجمع هنا تجاوزا) العمل الحقوقي قد صمدت أكثر، رغم ميلادها المتأخر (السبعينات من القرن الماضي) عن نشأة الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات الثقافية. ومن بين مقومات صمود هذه القلع الحضور النضالي القوي للمناضلين الرافضين للالتحاق بخندق النظام، وفي مقدمتهم العديد من المعتقلين السياسيين السابقين. هنا مرة أخرى، يمكن الحديث عن هجرة، لكنها من نوع آخر. فليس حبا في سخاء التمويل، بل "هروبا" من الهامش الضيق والخانق الذي فرضته الأحزاب السياسية، أي غياب الديمقراطية الداخلية، و"عجزا" عن التصدي للضغط البيروقراطي للقيادات النقابية. ورغم منعطف 2011 (انتفاضة 20 فبراير) وما شهدته المرحلة من تراكم نضالي ومن "تجاذبات" ذاتية وموضوعية، لم تعد الأمور الى توازنها، بل فاقمت من سرعة انحدارها.
ولأن أعين النظام لا تنام، وأن حساباته أفضت الى خطط/مخططات تتماشى وموازين القوى الحالية المختلة لفائدته، فلم يعد يطيق "الشغب" الحقوقي المزعج في شخص الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالضبط. ولجأ في أول الأمر الى إغراق الساحة بإطارات شكلية تحمل صفة "حقوق الإنسان" (حصل نفس الإغراق بالنسبة للأحزاب والنقابات والجمعيات). ومن تم انطلق مسلسل الاحتضار، حيث تشكلت الائتلافات الهجينة (جمع ما لا يجمع)، وبرزت الذوات المريضة التي تتغذى بالأضواء (أشعة الكاميرات) ونشطت العناصر المشبوهة (ظلامية وشوفينية) التي لا تعنيها كونية حقوق الإنسان، وعموما اختلط "الحابل بالنابل". فصار الكيل بمكاييل، وخفت الإشعاع الحقوقي وتضاءل الاهتمام بالقضايا المصيرية وتضخمت الصراعات الداخلية (السياسي/الحقوقي) وقفزت الطحالب الى الواجهة. والضربة القاضية التي نفذها النظام بقفازات "حقوقية" هي "إرغام" المناضلين المبدئيين، عبر التضييق والحصار، على مغادرة آخر القلع الصامدة، وإفشال/عرقلة "رهاناتهم".
نعم، اُكل العمل الحقوقي يوم اُكل العمل السياسي والنقابي والثقافي..
وفي الأخير، العودة الى الأصل أصل (نقد ذاتي). لأن الصراع الطبقي لا يعرف التوقف. فلتستمر المعركة على كافة الواجهات/الجبهات النضالية، السياسية والنقابية والجمعوية. فيكفي أن نتابع معارك العمال البطولية بمختلف مناطق بلادنا لتشتعل داخلنا جذوة النضال والتضحية...
شارك هذا الموضوع على: ↓