2022/03/09

نعيمة البحاري // من هنا حيث 8 مارس ورود من بؤس


حين تنتقل عيناى من الشاشات، والمهرجانات، والمنشورات إلى الحياة الحية، أشعر  كأنما اسافر من كوكب إلى كوب آخر.

أمام الشاشات، تقرأ، او تتابع برنامج، او ندوة،.. أو أي شيء يعمل على انتاجه، وتقديمه على مختلف وسائل الإعلام، بمناسبة 8 مارس، يوحي أن حياة المرأة وسط المجتمع هادئة ووقورة، وتتمتع بمكانة متميزة في الواقع وعلى الأوراق بمحتوياتها الليبرالية والإيمانية/الفقهية.

ينتشي الخيال سعادة، أفهم أفلاطون دون الحاجة لرؤية جمهوريته. سحابة الممرات وظلام الشوارع وسواد المعامل والضيعات، والبوادي، والاحياء الشعبية تضاء بأنوار الكاميرات والاستوديوهات، ويبدو لك ان اليوم الاممي للمراة، يومان في يوم واحد. يوم تبعث فيه الرسائل، و"الورود"، من جانب واحد، من فوق، من الصالونات، من الكاميرات،  من الرواسب الأخيرة للطبخة البشرية التي تطبخ هناك، ودائما هناك، حيث انتقلت إقامة المقيم العام، وتوضع على التنفيذ في مكاتب السادة، في مقرات السياسيين، وفي الظل مخرجين، ومصمي الديكور، وعلى الواجهة "ابطال" و"بطلات" الشاشات.. مع حشد منتشر على كاهل الذكرى وهو على غاية الأناقة وحسن الهندام.

ويوم ثان هو يوم الواقع الحي. يوم 8 مارس الحقيقة.

امام الشاشات اشرد، أمتطي الخيال، وأبحث للصورة عن معنى، لحد نسيان أن المعنى في الخيال ليس هو نفسه المعنى في الواقع، ومع ذلك لا امنع نفسي من تأمل ثورة تتوقف على استعراض الملابس، والسلفيات، والعناق، و"الورود"، و"الإيمان"، وكلمات "لطيفة" في حق نصف المجتمع، واجدها انها افضل ما يدخلنا لمرحلة جديدة في بناء المجتمع الثوري البديل دون الحاجة حتى لطلقة طائشة.. إنه الحلم/التسويق البرجوازي، إنه أيديولوجية الخداع، والمكر، إنه جدار الكذب والزيف، إنه الهدوء الزائف الذي يزيف الواقع، يشوه الحقيقة، الذي يشوه وجه كل كائن بشري لا بصيرة له.

وحين اغادر الشاشات، وابتعد عن اشعاعاتها، أجد نفسي على كوكب الأرض، حيث موطئ اقدامي. وتبدو لي الحياة لعبة بجوار أقوياء الأنياب، بجوار صناع مشاهد الإلهاء، أما وانا في الحضيض بجوار أهل جلدتي، طبقتي، فأنا اللعبة، انا وانت اللعبة، انا وانت محور اللعبة، انا وانت مجرد وسيلة،.. حيث المرأة من وسطنا هي الشقاء، هي الاضطهاد، هي الاستغلال الفضيع، هي الفريسة، فريسة وحوش رأس المال الذين يتلهفون لافتراش أجساد النساء وتحويلها لأسرة ناعمة.

لا أحد يعرف اضطهاد المرأة، ولا أحد يعرف شقاءها، ولا احد يعرف مأساة النساء، ولا احد يعرف بؤس العاملات، ولا احد يعرف موت الأم الفقيرة،.. غير الفقراء، غير الكادحين. الفقراء هم وحدهم من يعرفون ما يفوق كل ما يؤلم في هذه الحياة بما فيه الموت قبل الموت البيولوجي، لأن الفقر يفوق بكثير الموت. ومع ذلك وحدهم الفقراء من يحتفظون بالإبتسامة البريئة، والبساطة، والأمل.

الأزمة.. الفقر.. انعدام اي مورد.. والبحث عن اللقمة بعرق الجبين.. لتحصل المرأة الكادحة على اللقمة تستبسل، تكافح، تضحي، وتنتصب بصلابة في وجه الفصول والقوانين الرجعية. إنه زمن السادة والاجراء والظلم والاستغلال، والغنى والفقر في كل مكان..

إنه زمن 8 مارس "النخبة" واسياد "النخبة"، و 8 مارس  العاملات والعمال وعموم الكادحين.

8 مارس بالقرب من العاملات ليس هو 8 مارس على الشاشات. ان تكون قريب من العاملات يعني انك خارج عالم المثل/المكر، خارج عالم الشاشات، خارج عالم الخدعة، وقريب من الحقيقة، قريب من مصب الظلم والفساد والكآبة والبؤس والعذاب وكل صنوف الهوان، قريب ممن ينظر إليهن نظرة لؤم..

إنها الحقيقة الحية التي عايشتها بالقرب من مدينة العمال. العمال الأفقر من كل الشغيلة في هذا الوطن المنهوب.. مدينة العمال الزراعيين بمنطقة اشتوكة ايت باها، بمركز خميس ايت عميرة، حيث نسبة المرأة في هذا القطاع تفوق الرجال. المدينة حيث لا فرق بين 8 مارس وباقي الايام، المدينة حيث الكآبة حطت رحالها. ولا ينس الكآبة المخيمة على المدينة طول النهار سوى تلك التجمعات البسيطة للعاملات والعمال على أطراف الشارع، أو وسط أزقة الحي، حيث ينتشلون البؤس اليومي بنشر كل ما يجري من ظلم في تلك الجموع ليتنفسوا شيئا من الارتياح النفسي، واستجماع القوى لمقاومة يوم جديد، أو لصهر مأساة والتي في الغالب لفقدان أحد رفاقهم من العمال أو العاملات في حادثة شغل او حادثة على الطريق عند نقلهم بواسطة حافلة مهترئة أو "بيكوب" أو تطورات أوضاع عمال مطرودين، أو تسريح أفواج جديدة، او مرض ناتج عن مخلفات سموم الأدوية الفلاحية المحظورة، والمرخصة المستعملة بكل عشوائية وبدون مستلزمات الوقاية، في الحدائق الخلفية لأسواق أوروبا، كوقائع حية تبعث التشويش انبعاثا. وتكسر كل ما قد يضمن الحياة الصحية والسليمة.. 

هنا انتاج الثروة مقابل تراكم البؤس والشقاء.. هنا العمل والبؤس في نفس الوقت.. هنا سعر قوة العمل لثماني ساعات 65 درهما، منذ زمن بعيد، ولا يتزحزح.. هنا مجاري مياه الصرف الصحي لا تميز عن مجاري مياه الأمطار.. الذباب، والناموس ، وكل الحشرات التي تتغدى على الأوساخ والقادورات، في تكاثر، كلما سطعت الشمس على المدينة، ولسوء حظها أن حرارة المنطقة مرتفعة طول السنة باستثناء شهر يناير وأواخر شهر سبتمبر في بعض السنوات.. هنا الطفولة ليست هي الطفولة بالاحياء التي يسكنها اصحال الضيعات، وليست هي نفسها لذا من تنتج لهم خيرات  هذه المنطقة، وهذا الواقع لا يحرك شعرة عند المجالس  المتعاقبة منذ زمان.. هنا لوحة ملطخة بألوان الفقر والمآسي.. هنا مجمع كل اولائك،  الذين طاردتهم أحوال أنبتت تحت أقدامهم الشوك وارغمتهم على الهجرة من قراهم ومدنهم الأصلية وانحدرت بهم لأسواق خاصة تسمى "الموقف" لبيع ما تبقى من جهد عضلاتهم.. ليشكلوا في هذه البؤرة عشيرة يجمعها دم الكدح والمعاناة..  

من هنا، يوم 8 مارس، هو مثل سائر أيام الاستغلال، مثل سائر ايام الشقاء.. أياد متشققة، مظهر مدراء، ورود من غبار، ورود من بؤس، عطر من المبيدات.. وحكايات الموت.. وحكايات السموم.. وحكايات الحوادث.. ونظرة لؤم من رواد الصالونات، ومن مصاصي الدماء..





شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق