ربما في زمن ما، في مكان ما، في رقعة ما عبر العالم، في بلد آخر غير المغرب، ينبع الثوار من قلب السجون. ماذا أصاب سجوننا ومعتقلاتنا؟ ما هذا العقم وما هذه الضحالة؟
معذرة. المقولة البريئة تحدثت (ربما) عن زمن بعيد بالمغرب أو بفلسطين الأقرب الينا من "حبل الوريد". والأكيد أن "الشعر" لا يطابق الواقع دائما وقد "يهيم" في أكثر من وادي (معذرة للشعراء المناضلين، الصادقين). فلو صدق "الشاعر" ناظم المقولة الجميلة والحماسية لعجزنا عن إحصاء عدد الثوار ببلادنا أو لصنعنا ثورتنا المؤجلة الى حين في الحين. وللأسف عدنا وبحماس وألم نحصي الشهداء والمعتقلين والمشردين بدل إحصاء الثوار واستشراف الثورة. ورغم احتراقنا (أنت وأنا)، كما تساءل الشاعر الشهيد ناظم حكمت، فالظلمات تزداد عتمة وظلاما.
تصوروا/تخيلوا عدد خريجي السجون والجامعات لأزيد من خمسة عقود، ولنتساءل جميعا عن مصيرهم الآن، وعن السبل أو المستنقعات التي ابتلعتهم في غفلة منا ودون رجعة.
أين "رفاقنا"؟ أين "الثوار"؟ أين "الشعارات"؟ أين "المواقف"؟ أين "التضحيات"؟ أين "الحماس"؟ أين "الصدق"؟
لقد أجاب "كبيرهم" الذي تقلد المناصب العليا، أو أحد الثعالب المثقفة، عن هذه الأسئلة المستفزة بشعرية وجمالية معبرتين من خلال رواية "الحلم والغبار". بالفعل، تبخر "الرفاق" و"الثوار" و"الشعارات" و"المواقف" و"الحماس" و"الصدق" وكل شيء جميل يحيل على الماضي سواء الجميل أو الأليم. ويخجلني أن أقول إن كلمة "الثورة" صارت ترعب بعض "رفاقنا" وبعض "الثوار" الذين "نبعوا" من السجن (خطأ) ويزايدون علينا الآن بدون خجل. ولا أخفي كم تفاءل بعض المعتقلين لأن هذا السجان أو ذاك قد جاملهم أو ابتسم في وجوههم!!
وبلغة النثر الخشنة، لا ينبع الثوار من السجن دائما. لقد فعل الجلاد/السجان فعلته، وطوع من طوع ودجن من دجن وعطب من عطب وأعدم من أعدم. وبالأرقام أيضا، نبع من السجن المنبطحون والمتواطئون والمتخاذلون أكثر مما نبع الثوار والمناضلون. وللذكرى، فقد ساهم "الثوار" الذين "نبعوا" من قلب السجون، أي الرموز الورقية، في تبييض سجل النظام الدموي وفي فك عزلته وضخ دماء جديدة في عروقه، وقادوا أكبر مؤامرة ضد قضية الاعتقال السياسي معتمدين فخ "التعويضات" الهزيلة وحكاية "جبر الضرر" المزعوم، وأعني "هيئة الإنصاف والمصالحة" البئيسة التي لم تنصف أحدا غيرهم، ولم تصالح غير المتصالحين مع النظام. إننا نؤدي ثمن جريمة شنيعة ساهم في ارتكابها الى جانب النظام ثلة من "الثوار" الذين "نبعوا" من قلب السجون. لقد مارسوا جشعهم حتى في حق "رفاقهم"، رفاق الدرب/السجن. لقد وزعوا الهبات حسب هواهم وحسب القرب أو البعد منهم ومن حظيرتهم السياسية أو العائلية. وأتحداهم أمام الملأ وأمام التاريخ ليعلنوا/لينشروا لوائح "المستفيدين" والمعايير المعتمدة في توزيع الفتات على "الضحايا".
إن الثوار في واقع الأمر ينبعون من السجن ومن خارج السجن. إنهم ينبعون من المعامل والمصانع والحقول والمغارات المجهولة والجامعات والمدارس ومن الشارع العريض ومن "كل فج عميق". لنقرأ تاريخنا المنسي، ولنرد الاعتبار لأبطالنا ورموزنا الذين لا يتباهى بذكرهم أحد. إن أحد سمات "تخلفنا" و"تفاهتنا" تتجلى في الانبهار المرضي بالآخر. إن الجهل بتاريخ شعبنا، الإيجابي والسلبي، نقط قوته ونقط ضعفه، لن يصنع المستقبل ولن يؤسس لمشروع الثورة المنشودة.
لا مجال اليوم لإخفاء بعض الحقائق المؤلمة أو التستر عن فظاعات "الرفاق" و"الأصدقاء" ولا مجال أيضا لتفادي الصدام أو "الخوف" من الجهر بالحقيقة الصادمة، لا مجال للمجاملة أو التصنع الممسرح. فليس كل ما يلمع ذهبا. إننا نجد داخل السجن المناضل وغير المناضل وحتى المتعاون مع النظام كتعبير عن الولاء و"التكفير عن الذنب" والتطلع الانتهازي الى "الحرية". لكن، وقبل أن ننعت طولا وعرضا بأحط النعوت أو يفترى علينا كشكل من أشكال الترهيب و"الماكرتية" المقيتة، نسجل مسؤوليتنا النضالية في الدفاع عن جميع المعتقلين وفي النضال من أجل إطلاق سراحهم، وهو ما قمنا به على أرض الواقع وما نقوم به الآن. غير أننا نتحدث هنا بالخصوص عن رهانات المستقبل المرتبطة بقضية شعب، من منطلق كون قضية الاعتقال السياسي قضية طبقية. وأكرر، إن المجاملة تقتل، لنصدح بالحقيقة رغم مرارتها.
وما يؤلم أكثر هو المحنة التي تعيشها العائلات (أمهات أو زوجات أو أبناء...). فهذه الأخيرة لا يعنيها بالدرجة الأولى موقف ابنها أو موقف/مواقف رفاقه. إنها بحكم الحرقة التي أصابتها جراء اعتقال/اختطاف/انتزاع ابنها من أحضانها أو بحكم اقتناعها ببراءته وعدالة قضيته، لا تتردد في مناصرته واقتفاء أثره من سجن الى آخر ومن قبو الى آخر وصرخاتها تصم الآذان وتلهب/تناشد الضمائر اليقظة وتفضح عجز العاجزين وضعف الضعفاء ومكر الماكرين.
إننا في حاجة الى قراءة تجارب عائلات المعتقلين السياسيين بالمغرب وخارج المغرب (أمريكا اللاتينية مثلا، الأرجنتين والشيلي...)، وأخص بالذكر تجربتي عائلات "مجموعة 77" و"مجموعة مراكش 84". وذكر التجربتين الأخيرتين يحكمه بالأساس العدد الكبير للمعتقلين وكذلك الإبداع الذي أبانت عنه العائلات في خدمة قضية أبنائها. لقد سجلت العائلات ملاحم جديرة بالتقييم والتوثيق، وكانت السند الأول لأبنائها أمام تخاذل القوى السياسية والنقابية وانسحاب العديد من "الرفاق"/"الثوار". لقد ساهمت في تركيع النظام وفرض إطلاق سراح أبنائها. وكواحد من معتقلي مجموعة مراكش 84، لا تفوتني الفرصة وكواجب نضالي دون الإشادة الصادقة بعائلتي الشهيدين الدريدي وبلهواري، وخاصة المرأتين الحديديتين أمنا السعدية الدريدي وأمنا الباتول بلهواري، دون أن أنسى أمهات مناضلات جمعتنا وإياهن لحظات حميمية رائعة، ومن بينهن أمنا رقية، أم الشهيد عبد الحق شبادة. ويشرفني أن أعترف أن لهن الفضل الكبير في انتصار معركة الشهيدين واستمرارنا في القبض على جمر القضية الحارق.
ولأن المعتقل مقتنع (طبعا، ليس جميع المعتقلين) بقضيته ومستوعب لوضعيته السياسية في ظل شراسة القمع وسعار النظام، فلا يهمه "العيد" (عيد الأضحى أو عيد الفطر...) أو أي مناسبة أخرى، عكس العائلة التي تحترق لغياب ابنها ولعزلته وحرمانه من الحرية وأبسط متطلبات الحياة الكريمة. فثقتنا في المعتقل السياسي المناضل وقدرته على الصمود والتحمل تجعلنا نفكر أو ننشغل بالدرجة الأولى بمعاناة عائلته ومحنتها.
لذلك، ومن موقع المعاناة، أتضامن مع كافة عائلات المعتقلين السياسيين وأضع نفسي رهن إشارتها في أي مبادرة نضالية تخدم قضية شعبنا أولا وقضية أبنائها ثانيا. فلن تتوقف آلات الإجرام من اعتقال وقتل وتشريد مادام النظام قائما. فمن عائلة مكلومة الى أخرى ومن معتقل الى آخر ومن شهيد الى آخر ومن مشرد الى آخر... ومن محنة الى محنة ومن معاناة الى معاناة. وفي إطار الصراع الطبقي، فمن انتصار الى آخر ومن هزيمة الى أخرى، حتى تحرر شعبنا وانعتاقه.
وبدون شك، سنواصل معركة المعتقلين السياسيين المناضلين بالريف وبفاس ومكناس والبيضاء وبكل سجون الرجعية، ليس من باب التعاطف أو العاطفة أو المجاملة، بل أساسا كواجب نضالي خدمة لقضية الاعتقال السياسي، كقضية طبقية، وخدمة لقضية شعبنا.
إنه أحد التحديات الفاصلة بين "الجد والعبث"...
شارك هذا الموضوع على: ↓