13‏/11‏/2019

Vste Blanche// طريق النضال...

خلف زجاج شفاف للمقصورة المتجهة نحو الجنوب ..أشم رائحة مياه البحر و هي
تعبث بحراشيف الأسماء ،أسمع عزف الأنامل على أساطيل السفن فتدغدغ رئتي و تنفسي...تشتعل شفتاي لرائحة الشاي و السيجارة و لعطر قهوة سوداء بدون سكر..أسترق التفكير من مخيلتي المليئة بذكريات لا تتوقف أبدا عن مجاراة داك الدفئ الخارج عن إرادة غروب شمس المساء ليحدث بردا يبقيني حيا حتى الصباح..
وسط كل هذه الأحداث التي مرت بمذكرتي كشريط فلم قصير بعثرته الرياح الموسمية ، قاطعني صوت مراقب القطار :
_التذكرة من فضلك؟
_ تفضل..
رجل السكك ،ذو اللحية البيضاء الصغيرة ،هو وحده من يحتفظ بأسرار المسافرين بقلبه ..ينزع الشوك من جسده المدمى و يمتلك أمال بطعم التوت الأبيض و بلون الطماطم الحمراء.. كلها مليئة بالإشارات و عليه أن يفك ألغازها وهو بإنتظار القطار المتأخر ....
غادر بصمت ليكمل مهمته في تفتيش المقصورات ..و أنا عدت لأتوه في مخيلتي ...
لقد تهت عندما غادرت المدينة ،لكن هذه الرحلة لا تقل أهمية عن الوجهة ...فللوجهة طعم آخر ،أفضل شريك يجمعك بنفسك و يقودك لخطوة الى الوراء و خطوتين الى الأمام ...
غلبني النعاس قليلا أو بالأحرى تركت للاوعي فرصة للتحكم بمصير عقلي قليلا ...أيقضتني خطوات المسافرين المترجلين من القطار ...لقد انتهت رحلتي على هذا الخط السككي لأبدأ رحلة الحلم المستمر ..حملت حقيبتي فوق ظهري و أنا أحتاج لآخر الخطوات لبلوغ نهاية الوجهة ..كل المسافرين يجرون متعاهم مسرعين كأنهم في سباق مع المسافات القصيرة ..إلا أنا أتمشى رويدا و كأني كنت أتمنى أن لا تنتهي رحلتي مع هذا القطار الذي يعرف وجهته أكثر مني ...أتمشى و قلبي يضخ الهواء و النيكوتين من كل المسام ..و رئتي مليئة بدهشة الرغبة في اكتشاف نشوة العالم و المجازفة ..
وصلت إلى إحدى المقاهي الشعبية التي تضج بالباحثين عن النسيان وسط هذا الزخم .. فهذه القرى الصغيرة تتنفس بلا فزع و الشباب هنا يعلمون جيدا أن هذه الأرض شبرا شبرا هي فقط خصلة من شعر إمرأة أمازيغية ..
الساعة تشير إلى الرابعة مساءً و أنا متسمر على كرسي خشبي منتظرا قدوم حافلة تقودني الى وجهتي ..أدخن السيجارة بشراهة و كأني محتاج لجرعة أكبر للموت ...فلا يرعبني حبل الموت الخالي من النشوة ، فأنا أحترق ليختفي العالم من حولي ..و ما سيحدث بعدها ليس من شأني ...
كل شيئ يجري بتمهل هنا حتى موعد الحافلات يتأخر لساعات طويلة ..لا أدري أ هي العادة أم لعنة حلت بوجودي؟!
تركت اللعنة جانبا و بدأت البحث عن فندق قريب أفرغ فيه تعب السفر الطويل .. فعيناي أضحت تتناوبان على النعاس... وانتظار الحافلة أصبح غير مجدي مقارنة بالإرهاق الذي أشعر به ..لقد اتسخت ملابسي و تغيرت ملامح وجهي ..و جفت دموعي في كفي ...
لكن البحث عن فندق في هذا المكان أشبه بالبحث عن جندي وسط الجثث...فما كان علي إلا اأن أسأل أحدا ليدلني على مكان قريب ...
اقتربت من شيخ لم يعد يحصي غنائم عمره..
يحتضن عكازه أظن أنه الصديق الوحيد المتبقي له بعد موت كل أقرانه...يراقب الغروب بصمت و يصارع غبار الموت كي لا يقتلعه من رغبة الإنتماء الى ذاته ..
- مرحبا عمي..
- صمت...
- عمي هل أنت بخير ..؟
يرفع رأسه نحو وجهي بأمتار كأنه يرسم قامتي ..أو كأنه يطلب مني قراءة تجاعيد وجهه المنسية...
- عمي ...
- هو مقاطعا ..من أي وجهة أتيت ..و إلى أي وجهة أنت ذاهب؟
في هذه اللحظة شعرت بغصة في الحلق و بألم في صدري ...و قلبي صار ينزف دما و دمع..ربما هو السؤال الصعب أو بالأحرى الحلقة المفقودة في حياة كل واحد منا..
ما الوجهة !! سؤال يذكرني بخريف عمري المتساقطة أوراقه على خاصرة الزمن ...
_آسف سيدي أبحث عن فندق لأبيت فيه الليلة ...أنا قادم من الشمال الغربي ...
وضع يده على كتفي حين استدار الى ناحيتي و كأنه يقول لي لازم تعطي للحلم فرصة أطول حتى تستعيد نفسك..
-عليك بهذا الطريق يا ولدي ( أشار بيده نحو الوجهة ) تقدم قليلا نحو اليمين و ستجده على يسارك مباشرة....
^^قدت نفسي مجددا نحو المجهول ..أجر رجلي أو بالأحرى هما من يجراني نحو مكان أزرع فيه بذور الشك و الظنون ...
خطوة أو خطوتين أو أربعة آلاف خطوة للوصول فأنا لم أعد أهتم للمسافات و لم أعد أكثرت لعقارب الساعة و هي تدور ..فالوقت توقف عندما غادرت المدينة وغادرت المنزل ليلا....ابي ،امي ،انا و اختاي، اخي الكبير لم يكن حاضرا.احساس رهيب كان ينتابني ، شيئ ما تمزق بداخلي . أيعقل ان تكون جدور الاشجار متصلة بشرايني ؟ كان الاحساس بالارتباط بيننا قويا . رابط قوي يجمع بيننا جميع. أختي "فتيحة " ، وأنا، كشجرة التين و اشجار الرمان والزيتون ، كالعصافير و الفراشات.. كنا جميعا نشكل عائلة واحدة متحدة .نلعب سويا نضحك سويا.نلتقي كل صباح ونفترق كل مساء بعد ان يسدل الليل ستائلاه . نفترق لنخلد جميعا للنوم. تركت قطعة من قلبي هناك في المدينة . نظرت الى اشجار الرمان و الزيتون و الصور القصير و المدرسة . كان الكل في حيرة من امره ، و يبكي على فراقي . أمسينا في مأتم .و العصافير، اظنها اختبأت في اعشاشها حتى لا تعيش الم الفراق.الفراشات ايضا غابت .كل العصافير التي كانت معي كل الفراشات كل الاشجار الكل بكى على فراقي.السماء أيضا لبت نداء القلوب الحزينة ،فبكت دموعا و أمطارا بحرارة.هجرت المدينة و المنزل تحت دموع السماء وغضبها. رعد وبرق يدويان بصوت الألم و الغضب.قد يأتينا الموت بأوجه متعددةو مختلفة، و أظن ان الفراق يمثل احداها
"أمي" دامعة باكية .أخرجت رأسها تمسك بيد أبي وتلوح لي باليد الثانية...^^
وصلت للفندق ..مهدود من التعب ، بعد الحجز دلني المستقبِل على غرفة بالطابق الثاني و بعد صعود حلزوني على الدرج وصلت الى رقم الغرفة المحجوزة ..فتحت بابه بصعوبة و ارتميت بأحضان السرير بحدائي ، و بدأت افكر في حالي و أحوالي ورحلتي في الحياة،بدأ دماغي يعد الخطط و الخطط البديلة و يرسم خرائط الطريق و يحسب الحسابات و الاحتمالات... فتذكرت مقولة للرفيق جورج ديميتروف حين قال : "تسلوا ايها الرفاق فالدرب طويل"...
نعم أيها الرفيق الغالي ،سأتسلى بجراحي كي أنسى ألم السقوط...
إلى حد الآن أخاف أن أنام ..الى حد هنا و في هذا المساء الخريفي البارد أخاف أن يتساقط النعاس على عيوني التي تنبث أوراق جفونها بلا سبب مقنع...كم الآن موحش؟؟!!....موحش إلى حد أن تكون وحيدا في الشتاء بعيدا عن يد التي وحدها تقول ، أنك مازلت على قيد الحياة ...
فكلما أريد النوم يتحول لعابي إلى سم الأنكوندا ، يجعلني أتنفس بعمق..و يقطع أطرافي الى أشلاء يضع كل طرف منها في زاوية مظلمة ..لم أتوقع يوما أن يكون النوم حارقا بمجرد أن أفكر بدفئ راحته...
تركت موضعي على السرير و جلست على كرسي في الشرفة ..أراقب القرية من الأعلى ..فهكذا تمر القطارات الليلية بطريقة خاطئة لتحط في هذه الأماكن المهجورة ..و ربما من هذه المحطات ترانا الملائكة و نحن نرتكب الأخطاء ...ووفقا لهذه المعادلة أ من الممكن أن يحب الإله أخطاءنا ؟و يغير رأيه و يطردنا من الجحيم الى الفردوس...
و هل يحب الله الفقراء من الأساس ؟!!!
كانت لي جدة تقول و هي بالكاد تحاول تذكر نفسها ..إن الله يحب الجميع ...
أما بنت جراننا فكانت دائما تقول لي دع الضوء مطفأ كي لا نرى خطأنا في حبنا السريع هذا ...فيمر أحد بالخطأ أمام النافذة و يظن أن اللله لا يحبنا ...
و كنت أتسآل كيف يدخل الإله المكان الخطأ؟
أخطاء شائعة هذه لكن ليس لي الحق الآن في تصحيح مفاهم أحد...سأمضي فقط الى الوجهة التي تناسبني ..أو الى الوجهة المتاحة ..ففي النهاية ستتساوى الوجهات ..لأنها تقود الى الحتمية التاريخية ..
لقظ ارتكبت أشد حماقة حينما لم أكمل مسيرتي مع القطار فصرت وحيدا هنا كإله مهجور في السماء يبحث عن عباده في الأرض...
ها هي شمس الشروق لاحت في الأفق و أظن أني سرقت من هذه الليلة بضع دقائق من النوم المتفرقة التي حلمت فيها بأمور سيئة و أظن أن ملاكي المراقب لن يحتسبها في سجل حسباتي لكي لا يغضب الرب في صباحه الجميل ...
وقفت مسرعا كي لا تفوتني الحافلة مرة أخرى ..حملت حقيبتي فوق ظهري كأني ذاهب الى الحرب...خرجت من الفندق مسرعا ..أووووف... على المطر أن يتوقف الآن و تجف الشوارع بسرعة ..و على السماء أن تكون أكثر حنانا عليَّ هذا اليوم و توزع قطراتها على جسدي بكل دفئ فأنا لن أتحمل الإصابة بنزلة برد في هذه الظروف الصعبة.. و ياليتني أستطيع تحديد وجهة الغيوم لأنهي هذا الجو السيئ...
("أسكت (مع نفسي مبتسما ) فأنت لم تحدد حتى وجهتك ")
عبرت الشارع راكضا و كانت نظراتي هي من تحافظ على توازني ..وصلت الى المحطة ..انتظرت بضع دقائق كي تأتي الحافلة ..صعدت الى مقعدي بعدما حجزت التذكرة و جلست مبتسما بثقة و بما يليق بوداع هذه القرية البسيطة...
التصق وجهي بالنافذة كي أراقب دقات قلبي و ارتعاشة جسدي كنت أعرف أني بحاجة لأن يتوقف المطر و يأتي فصل الربيع بشكل مباغث ..حتى تأتي أسراب الطيور و تمسح بأجنحتها نوافذ أحلامي...
غطيت وجهي بشال أسود حتى أنتهي من التفكير و غصت في نوم عميق كنت في حاجته منذ أول الرحلة ..

يتبع.....




شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق