المقصود طبعا هو مقاطعة الانتخابات أو المشاركة فيها من طرف القوى السياسية.
ومادام المقاطعون يعلمون والمشاركون بدورهم يعلمون، فهل يستوون؟
جوابي: لا، أي لا يستوون.
يعلمون، نعم. وهنا، فإنهم يتحملون المسؤولية ويضعون أنفسهم محط المساءلة والمحاسبة.
مسؤولية المشاركين، سواء متورطين أو غير متورطين، تتمثل في تزكية لعبة مكشوفة لا تخدم مصالح شعبنا، وخاصة الجماهير الشعبية المسحوقة وفي مقدمتها الطبقة العاملة. إنها آلية سياسية بدون أساس ديمقراطي، آلية من بين أخرى لإضفاء المشروعية على المخططات الطبقية للنظام القائم، بما يضمن استمراره وهيمنته القائمين على القمع والاستغلال والاضطهاد..
ولا أعتقد أن المشاركين غير المتورطين، وخاصة منهم النخب "المثقفة" والمتعلمة، يجهلون حصيلة هذه اللعبة المحكومة بدساتير ممنوحة منذ بداية الستينات من القرن الماضي (لا يُعذر أحد بجهله ماضي وحاضر اللعبة)، أي بعد حوالي ستين (60) سنة. والخطير أنهم على دراية كبيرة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المأساوية لأوسع الجماهير الشعبية. والأخطر أنهم على علم بأعداد المعتقلين السياسيين والمعطلين والمطرودين والمُسرحين من العمال والفلاحين الفقراء والمستخدمين... دون الحديث عن جرائم الماضي المستمرة اليوم أيضا، أي لا حقيقة ولا "إنصاف" ولا "مصالحة"، حيث لا يعدو الأمر سوى كذبة لا يُصدقها سوى المتخاذلين.
ومعرفة ما أحاط باللعبة من إجرام وفساد قد يُسائل المشاركين، وقد يُشكك في صفة "غير المتورطين" بالنسبة للبعض..
لا داعي للمزيد من "الإغراق" من باب "الاحترام" لغير المتورطين.
بالنسبة للمقاطعين، خاصة غير المتورطين، يُحسب لهم عدم تزكية هذه اللعبة وبالتالي الطعن في مصداقيتها.
وكما سبق أن أشرت، أكرر أن المقاطعين ليسوا كلهم مبدئيين رغم أنهم يعلمون؛ كما أن هناك من يقاطع بتلقائية وعفوية ولأسباب خاصة. ويعنيني الآن المقاطعين الذين يهمهم فعلا مصلحة شعبنا، أي التغيير الجذري.
أعتقد أن المسؤولية الأخلاقية والسياسية هنا أعظم. فمن يطرح على عاتقه خدمة قضية شعب، لابد أن يرقى الى التجسيد الفعلي لهذا الطموح المشروع والنبيل. نعلم أن المتربصين يُبدعون في إلصاق التهم الجاهزة بالمناضلين المقاطعين، مثل العدمية والكسل واللاوطنية...، وقد وصل بهم الحقد و"الاجتهاد" حد الدعوة الى إجبارية المشاركة (التسجيل في اللوائح الانتخابية والتصويت) وترتيب الجزاء عن ذلك، أي اعتقال المناضلين المقاطعين؛ لكن ذلك لن يثني عزيمة المناضلين عن مواصلة معركة الفضح والتشهير والبناء أيضا، مهما كلفهم ذلك من ثمن، مستحضرين بطولات شعبنا وتضحيات شهدائه.
نعلم جيدا أن المقاطعة ليست شعارا فقط للمزايدة أو التميز أو تصفية الحسابات. وهناك بالفعل من يقتصر على رفع هذا الشعار وشعارات أخرى عبر وسائط التواصل الاجتماعي دون أن يسكنه هم تنزيلها على أرض الواقع.
ونعلم أيضا الإكراهات التي تحول دون التواصل مع المعنيين، أي أبناء شعبنا، سواء في الميدان (التضييق والحصار والقمع...) أو عبر الإعلام "العمومي" الذي يُمول من جيوبنا (المنع والإقصاء...).
وأكبر فضيحة أن يسكت المشاركون، وخاصة غير المتورطين عن إقصاء المقاطعين من حقهم في الإعلام "العمومي" دفاعا عن موقف المقاطعة ودون أن ينبسوا ببنت شفة.
إنها ليست فضيحة النظام وأزلام النظام من أحزاب إدارية (الحيتان الكبيرة) وأخرى صارت كذلك متناسية دم "رفاقها".. فالأمر ليس جديدا أو غريبا عن الديمقراطية المُفترى عليها والمُتغنى بها من طرف النظام؛
إنها فضيحة من يدعي الديمقراطية البديلة (الحيتان الصغيرة) بما تعنيه من مشاركة وإشراك...، وينشد حرية الرأي والتعبير والحق في الاختلاف...، ويُعاهد الشعب على أنه عكس أسلافه "حيجيب الديب من ديله، ويشبع كل جعان"...
ومن باب النقد الذاتي ودون جلد للذات المناضلة، ف"حريرتنا" نحن المقاطعين غير المتورطين، أننا ندور في حلقة مُفرغة فرادى وجماعات. إن كل انتخابات ونحن "نتباكى" بالهامش ونُبدع المشاجب لنُعلق عليها عجزنا وضعفنا، وبعضنا البعض في أحيانا كثيرة.
إن المقاطعة المطلوبة هي مقاطعة الجماهير الشعبية المضطهدة المنظمة والمؤطرة من طرف الحزب الثوري. والمسافة التي تفصلنا عنها هي نفس المسافة التي تفصلنا عن هذا الأخير، أي عن الحزب الثوري.
أما المقاطعة العفوية فهي حاصلة دائما، وحتى نسب المشاركة الرسمية تعجز عن إخفاء هذه الحقيقة الساطعة...
لنتحمل مسؤوليتنا ولنواصل حضورنا على هزاله، بل لنُقوي هذا الحضور النضالي المستميت حتى لا يستوي حقا المقاطعون وغير المقاطعين؛ وحتى تنتصر قضية شعبنا..