يتغدى هذا العالم، كل يوم، من لحم ودم البؤساء والمقهورين. ينتج بهم كل ما يفيد الدمار والقتل، ثم ينفد فيهم المحارق.
من محرقة الى محرقة. من محارق النازية، إلى هيروشيما وناكازاكي.. إلى محرقة غزة. وفي كل محرقة يقدم المجرم نفسه مظلوما، يرسم لنا صورة الخير (بتشديد الياء) على نفسه، وصورة أشرار ووحوش العالم للضحايا.
لا شيء يسود غير الشر المطلق، غير الجرائم المخطط لها. كل ما وصله الانسان في مجالات المعرفة والعلم والتكنولوجية يدفع بقوة للعودة للعبودية وإنتاج المذابح الأكثر سوداوية من مذابح عصور العبودية والاقطاع، وحتى من مذابح الحربين العالميتين في القرن الماضي. هذا الواقع يعرفه الجميع على كوكبنا، لعجزت الأقلام المستأجرة في التستر عليه، ولو أنها نتجت التجاهل، وتمكنت من شل الحماس والاندفاع لمناهضته، والاستسلام لاوغاد النهب العالمي، وتجار الحروب والإرهاب والعنف والخداع. محرقة غزة تحملنا من عشرينية هذا القرن إلى القرن الماضي وإلى مراجع النصوص القديمة مع معسكرات الاعتقال والمجازر الجماعية للفلسطينيين، ولمذابح الأرمن، والجزائريين، وحكايات صناعة الصابون من لحوم البشر، وسرقة الأطفال الأفارقة والهنود الحمر، وتملك الإنسان الأسود على ارضه من قبل ملوك أوروبا.
إننا نعيش في مرحلة ازدهار النهب وكلما ازداد النهب كلما ازدادت الحاجة للقتل وللتهجير ولمعسكرات الاعتقال. إنه زمن اقطاب الجريمة الكونية. محرقة تفضح بالعمق لعبة تعدد الأقطاب، تعري الأوهام المعلقة على القطب البديل، روسيا الصين إيران.. العالم موزع بين الاقطاب الرأسمالية للذبح والنهب، كل قطب له نصيب في الذبح وفي خلق بؤر جديدة للنهب والقتل في نفس الوقت. وكل الحروب النظامية صارت عندها الابادة الجماعية امر طبيعي، بل صارت مستفيدة مما توفره معلومات الذكاء الاصطناعي الذي يمكنها من مسح مناطق مأهولة بالفيروسات والفيضانات والزلازل.. وهذه هي وحشية الرأسمالية في الشرق والغرب، ودائما الشعوب تدفع الثمن. وعجلة الرأسمال تدوس على من لا يملك، ولا يهمها سوى تعبيد الطريق لمراكمة الثروة ونقل إنجازات الكادحين إلى أيدي عدد قليل من الناس، وحل أزمات الرأسمالية المزمنة، لضمان استمرار نظام السوق.
هذا هو العصر الحقيقي ل"لا شرقية لا غربية وتحرر الشعوب من قبضة الرأسمالية هو البديل". في محرقة غزة تجرب عملية القتل من البيوت المكيفة باستعمال أجهزة الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي. حرب لا تميز بين النساء والأطفال والشيوخ والعجائز، بين المدني والمسلح، بين الحي والجماد، بين العمارات العالية والمباني البسيطة، بين المدارس ودور العبادة والمستشفيات، الكل مستهدف.. وتغرق رقعة صغيرة من فلسطين بالدماء، والكيان الصهيوني على ظهر حلفاء الناتو، وهذا الاخير يشرع الحق للكيان الصهيوني فيما سرق من أراضي فلسطين عبر التاريخ ويعطي الحق في المزيد من السرقة. وتوضع فلسطين في حجر رحى المنافسة جيوسياسية المتصاعدة، وصراع الأقطاب الإمبريالية الذي ينعكس في المواقف الدولية المتباينة.
الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق التاريخي في الارض. الكيان الصهيوني كيان مصطنع. دون امريكا والاتحاد الأوربي، والأنظمة العميلة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لن يبقى أثر لهذا الكيان اللقيط والوافد. وهي المعادلة العميقة، لعملية الصراع، لكل طموح جاد في خوض معركة التحرير وفي رسم خط الدعم الحقيقي.
لا أحد يمكن أن يتنكر لنوعية عملية "طوفان الأقصى" مقارنة بما عرفته المنطقة من حروب مع الكيان الصهيوني. ومع ذلك يجب أن نقر أنها لم تتمكن من قلب موازين القوة واكثر من ذلك كانت بعيدة عن إنتاج فعل نضالي شعبي مقاوم ضد الكيان الصهيوني. الكيان الصهيوني يرتعب من نمو المقاومة الشعبية، وفي مصلحته استمرار وضع يمنع نهوضها وتطورها. وكل مقاومة تعتمد أسلوب الجيوش النظامية ولا تتحرك بمعزل عن الأطراف الإقليمية الرجعية والخاضعة لأمريكا والكيان الصهيوني نفسه، لن تساهم في استنبات مقاومة شعبية قادرة على تشتيت قدرات العدو المتفوق عسكريا. وهذه نقطة الالتقاء بين الكيان الصهيوني وبين القيادات البرجوازية التابعة للانظمة الاقليمية في شخص حركة حماس الواقفة على رأس المقاومة. وبالمناسبة استحضر تجربة المقاومة الشعبية التي انطلقت بوادرها في أراضي 48 وبدأت تتوسع إلى الضفة والقطاع بأسلوب مختلف عن المقاومة التقليدية بقيادة حماس، اثر أحداث حي الشيخ جراح، وتميزها بطريقتها في تشتيت قوى العدو وشل إمكانية استعمال اسلحته الثقيلة والتي أوجدت لها صواريخ "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الطريق لتغيير مسارها واجهاضها بعد نقل المعركة إلى معركة توازن مسلح (توازن الرعب) ودخول أموال الخليج للتهدئة وإعادة الأعمار وتوقيع اتفاق "التفاهمات".
إن العاطفة والانصياع لما يزرعه يوميا الإعلام من مواقف ويسيدها، لن ينتج الموفق العلمي. فواقع المقاومة اليوم، في العمق، اجترار لهزيمة البرجوازية في قيادة التحرير. فقيادة المقاومة بقوى لا تحمل مشروعا للتحرر، وخاضعة لنظام إقليمي رجعي يستثمر في حروبها، يعمق من مسارات قتل للمقاومة الحقيقية ويمنع إمكانية نموها. لهذا لن تستقيم بندقية التحرير وهي بأيادي رجعية حولت فلسطين لقضية صراع ديني. مثلما الصهيونية تسوق أرض الميعاد. وتبقى النتيجة الموضوعية هي منع أي إمكانية لنهوض مقاومة توجه البندقية لإنجاز مشروع التحرير الحقيقي. والأخطر هو تجديد عمليات هذا المخطط دوما، في صورة حرب الابادة والهدم، وهو ما يشل من القدرة على النهوض للمقاومة الفعلية، وهي القدرة التي تتجدد عبر التاريخ. وبهذا الخيار تجدد قيادة حماس مواقعها على رأس القيادة ويسمح لها بالبروز وسط الشعب الفلسطيني كسلطة للمقاومة، عكس صورة سلطة رام الله.
وكما يقال ليس ربح معركة هو بالضرورة ربح الحرب. الحرب هي استراتيجية تخاض بطول النفس ولا تعطيها أو تضع لها المباغتة النهاية، وخطة طول النفس هي الغائب في عملية "غضب الأقصى". لهذا لا يجب أن نجتر صخب دعاية الإعلام الرجعي لاخضاع الشعب الفلسطيني للقيادات الرجعية، لاستراتيجيات صراع الاقطاب الدولية، بقيادة مجرمي الحروب. وتسليم قيادة تحرر شعوب المنطقة للقوى البرجوازية. وهي التي تمنع إمكانيات قيامة المقاومة الشعبية على كل أراضي فلسطين، إن انتصارات، في معارك ما، لم تغير يوما من حقيقة الواقع المر. بل كثيرا ما فتحت مسارات للانبطاح. وهنا نذكر ببطولات انتصار 6أكتوبر 1973 الذي خلص بقيادة السادات إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني. وكذك الامر بالنسبة لما تعيشه نضالات شعوب المنطقة في مساندتها وتضامنها مع الشعب الفلسطيني أمام حرب الابادة الجماعية، الجريمة الدولية الشنعاء والهمجية، حيث تخضع لقوى سياسية لا تملك سوى مشروع تنفيس الغضب الشعبي من خلال مسيرات الصراخ والشعارات، والعويل على الأبواق الرجعية، وتجدد لنفسها شرعية القيادة المهزوزة وتقطع الطريق على امكانية فعل تضامني شعبي قد يتطور ليرسم الطريق الحقيقي لدعم تحرر فلسطين والتي سيمر، حتما، عبر مناهضة التوغل الصهيوني المكشوف في بلدنا اقتصاديا وثقافيا وسياسيا، وتحرير شعبنا وانعتاقه من قبضة النظام اللا وطني اللا ديمقراطي اللا شعبي، عميل الامبريالية والصهيونية.
حسن العبودي